قَوْلُ اللهِ تَعَالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)
14 نوفمبر 2022استحسان التختم في اليسار هو ما ذهب إليه مالك رحمه الله
18 نوفمبر 2022التَّوسُّل والاستغاثة لفضيلة الأستاذ الكبير حجة الإسلام الشيخ يوسف الدجوي (2)
التَّوسُّل والاستغاثة لفضيلة الأستاذ الكبير حجة الإسلام المرحوم الشيخ يوسف الدجوي (1287 هـ – 1365 هـ) (2)
سؤال هل جاء في السّنّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عَلَّم النّاس أن يسألوا الصّالحين من الأموات ويطلبوا منهم الدّعاء؟ أرجو أن تذكر ولو حديثًا واحدًا.
الجواب: نحن نقلب عليه السّؤال أوّلاً فنقول هل جاء في السّنّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم نهى النّاس عن أن يسألوا الصّالحين ويطلبوا منهم الدّعاء؟ أرجو أن تذكر لنا شيئًا من ذلك ولو حديثا واحدًا.
ثم نقول له ثانيًا إنّ جواز الأشياء لا يتوقّف على ورود الأمر بها، بل على عدم النّهي عنها كما هو مقرّر في علم الأصول (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) (سورة الأنعام 145) إلى آخره، فكل ما لم يرد فيه نص بالحظر فهو مباح على ما تقتضيه الآية، وعَلَّمَنا صلى الله عليه وسلم في السّنّة الصّحيحة أنّ ما أمرنا به فعلناه ولم نتركه، وما نهى عنه اجتنبناه ولم نفعله، وما سكت عنه فهو عفو، فهذه هي قواعد العلم الّذي يعرفه العلماء.
وأما شبهة الموت فهي شبهة واهية لأنّكم بين أمرين إمّا أن تنكروا إدراك الأموات، وعلمهم ودعاءهم وسماعهم، وإمّا أن تقرّوا بذلك، فإن أنكرتموه ملأنا لكم الدّنيا أدلّة وبراهين على ثبوت ذلك لهم مثل دعاء آدم وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء عليهم السّلام لنبيّنا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كما في حديث البخاري ومسلم وغيرهما وكما في حديث (تُعْرَضْ عَلَيَّ أعْمَالُكُمْ فَإنْ رَأيْتُ خَيْرًا حَمَدْتَ الله وَإنْ وَجَدْتُ غيْرَ ذلِكَ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ) وكما في حديث عرض أعمال الأحياء على الأموات ودعائهم لهم، وقد ذكره ابن تيميّة (3) نفسه في فتاويه واعترف به ابن القيّم (4) كل الاعتراف وقرّره أتمّ التّقرير.
ومن محاسن المصادفات في هذا ما يقرّره الأوربيون الآن مما يوافق ذلك وقد قرّره قبلهم بعشرات القرون الفلاسفة الأقدمون مثل أفلاطون وغيره من الفلاسفة فالمسألة متّفق عليها بين علماء الدّين وعلماء الدّنيا أو نقول بين المسلمين وغير المسلمين أو نقول بين أهل الأثر والنّقل وبين أهل الفلسفة والعقل.
أمّا إذا اعترف الوهّابيّون بأنّ للأموات إدراكًا وعلمًا وسماعًا وأنّهم يدعون ويردّون السّلام إلى غير ذلك كما ورد في السّنّة ثم منعوا طلب ذلك منهم كانوا متناقضين أو نقول كانوا ممّن يسلّم بالمقدّمات وينازع في النّتيجة، أو ممّن يقطع باللّوازم عن ملزوماتها وهو ممّا لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل.
على أنّنا ذكرنا في ذلك ما يقطع الشّغب من أصله والمراء من أسّه، وذلك هو الحديث الصحيح الّذي رويناه عن عثمان بن حنيف في التوسّل به في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته وقد قال فيه (يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لِي عِنْدَ رَبِّكَ) ولا معنى للشفاعة إلاَّ الدّعاء الّذي يكون منه صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح (اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ)، وفي حديث آخر (بِحَقِّ نَبِيَّكَ والأنْبِيَاء قَبْلَهُ).
فالتّوسّل بالصالحين والدعاء ثابت وواقع وقد قلنا في بعض ما كتبناه لا معنى لكون هذا شريكًا كما يقوله الغلاة فإنّ الحي إذا طلب من الميّت الّذي هو حي بروحه متمتع بلوازم الحياة وخصائصها فإنّما يطلب منه على سبيل التّسبب والاكتساب لا على سبيل الخلق والإيجاد لأنّه ليس من المعقول أن يرفعه عن رتبة الحي وهو إذا طلب من الحي فإنّما يطلب منه على هذا الوجه لا على جهة الخلق والإيجاد والطلب من المخلوق على سبيل التّسبّب ليس شركًا ولا كفرًا ، فلا معنى لتكفير المسلمين بذلك ولو فرضنا أنّ الميّت لا عمل له فإنّ خطأ المنادي أو المستغيث على هذا الفرض إنّما هو في اعتقاد السّببيّة لا الإلهيّة، واعتقاد السّببيّة في غير الله ليس هو اعتقاد الإلهيّة كما يظنّه الجاهلون، وقد عرفت ممّا قدّمناه أنّه ليس غَلَطًا أيضًا، وإنّما الغالطون هم الغلاة، وإن كان التوسّل بمنزلته عند الله فالأمر واضح، لأنّ الموت لا يغيّر المنزلة عند الله تعالى.
سؤال هل الرسول صلى الله عليه وسلم أهمل نوعًا من التّوسّل إلى الله تعالى أو ترك شيئًا ممّا يقرّب إلى الله تعالى؟
الجواب: لم يهمل الرّسول صلى الله عليه وسلم شيئًا ممّا يقرّب إلى الله، ولا ترك نوعًا من أنواع التّوسّل، وقد علّمنا التّوسّل في حديث عثمان بن حنيف المتقدّم، بل توسّل هو بحقّه وحق الأنبياء قبله، وعرفنا أنّ آدم عليه السّلام توسّل به قبل وجوده، وقد بُيّن ذلك كله في الأعداد السّابقة.
وبعد، فماذا عسى أن يدل ذلك للسّائل؟! فلو فرضنا أنّ الرّسول لم يتوسّل بالصّالحين لأمكن أن يُقَال إن مقامه أرفع من كل مقام على أنّه صلى الله عليه وسلم كان عريقًا في العبوديّة وكان أعلم خلق الله بإطلاق الرّبوبيّة وسعتها وبأنّ الكل عبيدها وتحت قهرها وليس هناك إلاَّ فضلها الواسع، وكرمها الشّامل وأنّه لا بد من ظهور ذل العبوديّة على كل أحد وذلك من تعظيم الرّبوبيّة.
ويعلم صلى الله عليه وسلم أنّ عبيد السّيّد المطلق لهم منازل عنده، وأنّ لكل منهم مزية لديه، وأنّ المقتضي لعطائه تعالى إنّما هو العبوديّة له صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون بينهم ارتباط العبيد وتبادل المنافع، وعلى هذا قام بناءُ الكون.
كان صلى الله عليه وسلم أعرف النّاس بذلك كلّه، فطلب الدّعاء من عمر وابن عمر من رسول الله، وأمر عمر أن يطلب الدّعاء من أويس القرني، وأين أويس من عمر؟! وسأل الله تعالى بحق الأنبياء قبله كما في حديث فاطمة بنت أسد، وأمرنا أن نتوسّل به إذا عرضت لنا حاجة إلى الله فقال ذلك للأعمى (فَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ) وقد فعلها الرّجل الّذي كان يتردّد على عثمان بن عفّان في خلافته، وقد بيّنا ذلك أتمّ البيان.
على أنّنا نريد منكم أن لا تكفّروا المسلمين بمثل هذا العمل الّذي لا شيء فيه ونكتفي منكم أن تقولوا إنّه مباح أو خلاف الأولى أو مكروه إذا أردتم ولو قلتم ذلك لاحتملناه منكم وإن كان غير صحيح ولكن قومك يا حضرة السّائل الّذي يظن أنّه منصف وغير متعصّب يعملون على خلاف ذلك.
سؤال: هل ثبت ما يُروى عنه صلى الله عليه وسلم (مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إلَى الله إلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ)؟ وإذا كان ثابتًا فهل الطّلب من الأموات أن يدعوا للأحياء مما قاله الرّسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وفعله أم لا؟
الجواب: نعم ، ثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ودعاء الأموات داخل في دعاء الأخ لأخيه الّذي لا يمكنكم أن تمنعوه، وقد عرّفتنا السّنّة الصّحيحة أنّه لا فرق بين الحي والميّت في ذلك وأنَّ الميّت يدعو الحي على ما سبق فإنَّ الموت ليس فناءً أو عدمًا كما يظنّه الجاهلون وإنّما هو انتقال من دار إلى دار:
لاَ تَظُنُّوا المَوتَ مَوتًا إِنَّهُ لَحَيَاةٌ وَهُوَ غَايَاتُ المُنَى***لاَ تُرِعْكُم هَجمَةُ المَوتِ فَمَا هُوَ إِلاَّ نَقْلَةٌ مِن هَاهنا
ولا نزال نكرّر أنّه قد دعا آدم عليه السّلام وغيره من الأنبياء لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وأنَّ النبي يدعو لأمّته في البرزخ بل آباؤنا يدعون لنا على ما عرفت وتعرف على أنّنا نكتفي منكم أن تقولوا إنّه مباح لا قربة أو على الأقل لا تكفّروا به مسلمين وقد قلنا فيما كتبناه في العدد الثّالث من هذه السّنة إنّه لا وجه لذلك ولو قلنا إنّ الميت لا يمكنه أن يدعو ولا أن يفعل شيئًا فإنّ الغلط في هذا الفرض يكون غلطًا في اعتقاد التّسبّب لا الإلهيّة، ولا نزال نكرّر أنّ معتقد السّببيّة في المخلوقات لا وجه لتكفيره ولا معنى له فإنّ من يجعل غير السّبب سببًا يكون جاهلاً لا كافرًا ، ويكفي هذا.
السؤال: هل بيّن الرّسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به من الوسيلة في آية المائدة عملاً بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) سورة المائدة 67 الآية، أم لا ؟
الجواب: نعم بَيَّن لنا صلى الله عليه وسلم كل ما نحتاج إليه، على أنَّ الوسيلة واضحة المعنى ظاهرة الدّلالة، والقرآن عربي نزل بلغة العرب، ولا وجه لقصركم إياها على نوع خاص، فإنّه قول بلا دليل، على أنّه لا داعي لذلك كلّه، فقد ثبت التوسّل مصرحًا به في حديث عثمان بن حنيف وغيره ممّا قدّمناه، وقد جاء في آخر الحديث المذكور (فَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ) وقد عمل به في زمن عثمان بن عفّان، كما بيّناه فيما سبق من الأعداد.
السؤال: هل يلزم من عدم دعاء الأموات ومخاطبتهم بغير المشروع إنكار كرامتهم؟ وإذا قلتم بالتّلازم، فبيّنوا لنا وجهه بالبرهان، واذكروا لنا من الصّحابة والتّابعين والأئمّة المتبوعين من قال بجواز هذا النوع من التوسّل.
الجواب: نعم من كان مثلكم ينكر التوسّل والاستغاثة يجب أن ينكر كرامات الأموات، فإنّه إذا لم يصح أن نتوسل إلى الله بالميّت، ولا يمكنه هو أن يدعو لنا، ولا تستطيع روحه أن تفعل شيئًا كما هو اعتقادكم، فأي كرامة تكون له بعد ذلك؟! وما معنى إثباتكم إياها وقد نفيتم عنه كل عمل وكل قدرة، ومنعتم أن نتوسّل به لله تعالى ليفعل لنا ما نريد لأجله؟ فأي شيء يبقى بعد ذلك؟!
وأمّا طلبكم منا ذكر من جوّز ذلك من التّابعين أو الأئمّة المتبوعين فنحن نقول إنّ الأمّة كلّها قبل ظهور ابن تيميّة على هذا الجواز ونتحدّاكم فنقلب السّؤال عليكم فنقول هل يمكنكم أن تذكروا لنا من التّابعين أو الأئمّة المتبوعين من منع ذلك النّوع من التّوسّل؟
أليست المذاهب كلّها مجمعة على توسّل الزّائرين للحجرة النبويّة به صلى الله عليه وسلم؟! وقد ذكرنا لكم نص الحنابلة في ذلك، وكذلك جميع الأئمّة، ولا نرى لكم سلفًا فيما تقولون، بل جميع العلماء يصرّحون بأنّ ذلك مطلوب من كل زائر لا جائز فقط، فهذا هو الإجماع، وقد مرّ من الأدلّة العقليّة والنّقليّة ما يكفي ويشفي، ثم نقول لكم ألم يعترف ابن القيّم بأنّ الرّوح القويّة لها من الأعمال بعد الموت ما لا تستطيعه حالة الحياة، وقد وصل الأمر إلى أئمّتكم أنفسهم؟!
فأنتم في إثبات كرامات الأولياء وغيرها متناقضون تارةً مع الهوى، وتارة مع الحق، ويرحم الله من قال المبطل لا بد أن يتناقض شاء أم أبى.
وأمّا تضليلنا إيّاكم فإنّما هو لتكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم، إلى آخر ما كان يفعله الخوارج، وكان ينقمه عليهم الإمام علي ومن معه من الصّحابة، ولو قلتم إنّ الأولى أن يرجع الناس في كل أمورهم إلى الله تعالى بلا واسطة أو قلتم إنّ هناك مقامًا تسقط فيه الأسباب والوسائط كما قال إبراهيم عليه السلام لجبريل عليه السّلام (أمَّا إِلَيْكَ فَلاَ) عندما قال له (أَلَكَ حَاجَةٌ).
لو قلتم ذلك وسلكتم هذا المسلك لم ننكر عليكم، ولم نشتد في مناقشتكم، ولو كان لكم رأي في المسألة غير التّكفير لقلنا مجتهدون ظنّوا ظنًّا وإلى الله أمرهم وكم مجتهد أخطأ ولكن أولئك الّذين أخطئوا لم يقدّسوا أنفسهم هذا التّقديس ولم يحملوا النّاس على مذاهبهم بالسّيف لأنّهم يجوّزون أن يكون الحق في جانب غيرهم ويعلمون ما جاء عن الرّسول أنّ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وأنّ من رمى أخاه بالكفر فقد كفر أو كاد.
ولم يرض الإمام مالك من الخليفة المنصور العبّاسي أن يحمل النّاس على الموطّأ وهو هو عند مالك ولا من الرّشيد أيضًا أن يلزم النّاس بما فيه احترامًا للأمّة وعلمائها واتّهامًا لنفسه شأن أئمّة الهدى وورثة الرّسول صلى الله عليه وسلم والجاهل لا يعرف غير تعظيم نفسه والعالم لا يعرف غير تعظيم ربّه ومن تعظيم الله تعظيم من عظّم الله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
ثم قال السّائل: لا يمكننا أن نسيغ توجّه المسلم العارف بربّه، الآنس بذكره إلى عبد من عباده انتقل من عالم إلى آخر، لا يعلم حاله فيه إلاّ الله، يسأله ويخاطبه بعد أن كان متلذذًا بخطاب الله تعالى ومناجاته، ولا يخفى عليكم حديث أم العلاء من صحيح البخاري، وفيه أنّها شهدت لمهاجر وهو أبو السّائب توفّي عندها فقالت أمّا شهادتي فيك لقد أكرمك الله، وأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال لها (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ) إلى غير ذلك من الأحاديث من أمثاله، وكلّها تدل على أنّ الأموات قد أفضوا إلى ما قدّموا، وأنّه لا يجوز لنا أن نحكم لأحد حكمًا جازمًا بأنّه من أهل الجنّة أو من أهل النّار إلاَّ ما ورد النّص بأنّهم من أهل الجنّة أو من أهل النّار كما ورد في أهل بدر وبعض الصّحابة كعكاشة بن محصن.
ونحن نقول: إن حضرة السّائل أدمج في هذا الكلام الخطابي أشياء لا نتركها له بل نناقشه الحساب فيها.
أمّا التمويه بذكر توجّه المسلم إلى ربّه وتلذّذه بذكره فهو لذيذ في الأسماع يكاد يأخذ بمجامع النّفوس ولكن هذا مقام تحقيق علمي لا ينفع فيه التّمويه ولا تفيد فيه الخطابة وقد قلنا فيما سبق لو كان رأي الوهّابيّين أنّ هذا هو مقام الكمال لم نتعرّض له ولكنّهم بدّعوا وفسّقوا وكفَّروا إلى آخره.
فأين هذا ممّا يقوله السّائل فإن كان يريد أنّ الاشتغال بذكر الله ومناجاته أولى فليس الخلاف بيننا وبينه في الأولويّة ولكن النّاس درجات بعضها فوق بعض، ولا حرج على من يلتفت للأسباب والوسائط عالمًا أنّ الله هو الأوّل والآخر فهو ممد كل شيء والمفيض على كل شيء وإليه يرجع الأمر كلّه ولا بين من ترك الأسباب ثقةً بالمسبّب، فكان هذا غريقًا في قدرته، كما كان ذاك ناظرًا إلى حكمته، عاملاً بسنّته، فلا حرج على هذا ولا ذاك، وإن صح أن نقول: إنّ بعضهم أفضل من بعض.
وهل ما ذكره السّائل من حديث التّلذّذ والأنس الّذي قطعه خطاب الأدوات صحيح أم هو تمويه وخيال؟ ولماذا لا يقول مثل ذلك في الطّلب من الأحياء؟ أليس الأنس بالله تعالى ومناجاته خيرًا من الطّلب من الأحياء أيضًا ولو كان وزيرًا أو أميرًا أم التّفصيل الّذي ذكره لا يتحقّق إلاَّ بين الطلب من الله، والطّلب من الأموات؟!
وقد أدمج كلامه ما يلهج به كثير من الجهلة من أنّ الميت لا ندري حاله ولا ما مات عليه وهو سوء ظن كبير بالمسلمين بل بالله تعالى، فنلفت نظر السّائل إلى أنّ من عاش على شيء مات عليه، كما في الحديث الشّريف، فهذه هي سنّة الله الغالبة وما عدا ذلك فشاذ لا يقاس عليه لحكمة يعلمها هو.
ثم نقول إنّ الأمور في هذا العالم مبنيّة على الظّن، حتّى الأمور الشّرعيّة والأحكام الفقهيّة، وعلى هذا يجب أن نعامل أمواتنا، فنغسلهم ونكفّنهم وندفنهم في مقابر المسلمين، ونورث أموالهم … إلى غير ذلك، ولسنا على اليقين الّذي يريده السّائل من أمرهم ولكن ذلك اليقين لم يشترطه أحد.
فعلينا أن نعد من عاش في حياته على خير وصلاح من أهل الخير والصلاح بعد موته، ولا يجوز لنا غير ذلك اتباعًا لتلك الوساوس الّتي ما أنزل الله بها من سلطان.
وليت شعري، هل إذا رمينا أحدهم بأنّ أباه لا ندري حاله أمسلم هو أم كافر أفيغضب أم لا؟! أو هل يريد أن لا نعمل شيئًا إلاَّ بناء على جزم ويقين؟! إذًا يختلّ أمر هذا الوجود وتبطل أحكامه.
أمّا حديث عثمان بن مظعون الّذي أشار إليه السّائل فالمراد منه أنه ينبغي الخوف من سعة التّصرّف الإلهي، وأنّ مرتبة العبودية لا تتخطّى مقام الرّجاء والضّراعة، وأم العلاء قد قطعت على الله أنّه مُكْرِمُهُ على سبيل الجزم، فأخرجت ذلك مخرج الشّهادة، وأظن أنّها لو شهدت له بالدّين والصّلاح، لتغيّر جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال في آخر الحديث (وَإِنِّي لأَرجُو لَهُ الخَيْرَ).
فهل يفرّق السّائل بين رجاء الخير وظن الخير؟! ولماذا لا يذكر لنا ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَجَبَتْ) ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ (وَجَبَتْ) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (مَا وَجَبَتْ)، قَالَ (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ)؟! أو ما أخرجه عن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) قُلْنَا وَثَلَاثَةٌ قَالَ (وَثَلَاثَةٌ) فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ (وَاثْنَانِ) ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ؟! أو ما أخرجه البخاري أيضًا من قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد (أنا شهِيدٌ عَلى هؤلاء)؟!
ثم نقول للغلاة جميعًا لماذا لا تذكرون أو لا تعملون ولا نقول لا تصدّقون بما أخرجه البخاري أيضًا من قوله صلى الله عليه وسلم (إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَ) … إلى آخره، بل سارعتم إلى القول بالشّرك الّذي لا يخافه صلى الله عليه وسلم على أمّته، فأوسعتموهم ذبحًا وقتلاً معتقدين أنّهم مشركون خارجون عن الملّة، وكأنّ السّائل قد أحس بذلك كلّه فقال (على سبيل الجزم).
ونحن نقول له يكفينا الظّن، وحسن الظّن بالمسلمين مطلوب خصوصًا الصّالحين وأمّا الجزم الّذي تريده فلم يشترطه أحد كما قلنا.
ثم قال السّائل وإنّ من المجازفة أن نزيد على حسن الظّن فيمن لم يرد لهم شهادةً من المعصوم .
ونحن نقول له إن من المجازفة أن تسيء الظّن بمن لم يرد فيهم نص عن المعصوم، خصوصًا من ظهرت عليه علامات الخير وأمارات الصّلاح، أو ظهرت له كرامات في حياته وبعد مماته، وتجويز أن يكون قد تغيّر حاله هو من سوء الظّن بالمسلمين بل بالله تعالى، كما أنّه عقوق للآباء والأجداد، وما معنى الزّيادة التي زدتها حضرتك، وليس ذلك كلّه إلاَّ أثرًا لحسن الظن ومبنيًّا عليه؟!
ثم قال السّائل: وكم أكون مسرورًا جدًّا إذا عثرت لنا على نص صريح في هذا النّوع من الوسيلة.
وأقول: ذكرنا من الأدلّة العقليّة والنّقليّة الشّيء الكثير، وقد كان يكفيه حديث واحد على ما يقول، وقد قلنا إنّ من يثبت الحياة والإدراك والعلم للأرواح والقربة والمنزلة للصّالحين ثم يمنع التوسّل والاستغاثة بهم متناقض غاية التّناقض، قاطع للملزوم عن لوازمه، وقد ذكرنا إجماع الأئمّة على التّوسّل به صلى الله عليه وسلم عند زيارته، ولو لم يكن في الموضوع إلاَّ حديث عثمان بن حنيف لكان كافيًا شافيًا.
وعلى الجملة فقد أجمعت الشّرائع كلّها، والفلاسفة الأقدمون، والفلاسفة العصريّون، أو نقول المسلمون والأوربيّون والأمريكيّون والهندوس على إثبات الحياة ولوازمها للأرواح وعلى أنّ لها من الإطلاق وسعة التّصرّف مالم يكن لها حال حياتها في هذا العالم وهو عين ما قرّره ابن القيم أحد أئمّتهم في كتاب الرّوح.
أسأل الله أن يزل عنّا حجاب المادّة وكثافة الطّبيعة وظلمة الأشباح بمنّه وكرمه.
يتبع باقتباس جدّ مهم في الجزء الثالث.
_________________
(2) مقالات وفتاوى الشّيخ يوسف الدّجوي ط دار البصائر (1 /242) وقد عُزِيَ إلى مجلة الأزهر الجزء الخامس المجلد الثاني جمادى الأولى سنة 1350 هـ.
(3) ابن تيمية معتقَدٌ عند الوهابية نفاة التوسل لذلك يذكره الشيخ هنا.
(4) ابن القيم معتقَدٌ عند الوهابية نفاة التوسل لذلك يذكره الشيخ هنا.