استواء الله ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج ولا استقرار في مكان (من كتاب الاعتقاد والهداية للإمام الحافظ البيهقي المتوفى سنة 458 هـ)
13 نوفمبر 2018من أمراض القلوب الحسد
15 نوفمبر 2018كتم العيوب وستر العورات
الحمدُ للهِ الذي شَرَّفَ قدْرَ سيّدِنا محمدٍ الرَّسولِ الكريم، فخصَّهُ بالصلاةِ عليهِ وأَمرَنا بذلك في القُرءانِ الحكيم، ومَنَّ علينا باتّباعِ هذا النبيِّ الرَّحيم، وحبَّبَ إلينا اقتفاءَ ءاثارِه في الحديثِ والقديم. اللهمَّ صلِّ وسلِّم على سيّدِنا محمدٍ وءالهِ وصحبهِ أُولي الفَضل العَميم، صلاةً وسلامًا دائِمَين يُضيءُ نورُهما ظلامَ الليلِ البَهيم.
أما بعدُ عبادَ الله، فإني أُوصيكُم ونفسي بتقوى اللهِ العليِّ العَظيم القائلِ في محكم التنزيل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ(32)) سورة فصّلت.
إخوةَ الإيمان، الكيّسُ الفَطِنُ مَنْ خافَ رَبَّه ودانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموت، فعليكَ أخي المؤمن بملازمةِ الشَّرعِ ظاهرًا وباطنًا، وبحفظِ القَلبِ مِن نسيانِ ذِكْرِ الله، وبخدمةِ الفُقراءِ وأَصحابِ الحاجاتِ، وبادِرْ دائمًا إلى العملِ الصالحِ مِن غَير كسلٍ ولا مَلل، فإنَّ همةَ أبناءِ الدُّنيا دُنياهُم، وهمةَ أبناءِ الآخرةِ ءاخِرَتُهم، فكُن منْ أبناءِ الآخرة ولا تَكُنْ مِنْ أبناءِ الدُّنيا.
قال اللهُ تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) سورة النور 19.
وقد جاءَ بالإسنادِ المتَّصلِ الصّحيحِ في كتابِ المسْتَدرَكِ للحاكِمِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرها كانَ كمَنِ استَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا)، في هذا الحديثِ الشريفِ أنَّ مَنْ رأى عورةً لمسلمٍ فَسَتَرَهَا أيْ لم يَنْشُرْها بينَ الناسِ بلْ أخفَاها فلَه أجرٌ كأجرِ مَنْ أَنقَذَ مولودةً دُفِنَتْ وهي حيَّةٌ خَشْيةَ العارِ كما كانَ العربُ يفعلونَ في الجاهلية.
قبلَ أن يُبعثَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بمدةٍ كان هذا الشيءُ معروفًا عند العرب، وكذلك بعضُ أصحابِ رسولِ الله عندما كانوا على الجاهلية فعَل ذلك، كان بينَهم رجلٌ معروفٌ بالكرمِ والحِلم حدَثَتْ له حادثةٌ ففعلَ هذا (أي وَأْدَ البنات) وذلكَ أنَّ قبيلةً مِن قبائلِ العربِ أَغَارتْ عليهم فَسَبَتْ له بنتًا أسيرةً ثم حصلَ صُلْحٌ بينَ القَبيلتين وكانتْ هذه البنتُ قد تَعلَّقَ قلبُها بواحدٍ مِنْ تلكَ القبيلةِ التي أَسَرَتْـها، وهو مَالَ إليها وتَعلَّقَ قلبُه بها فخُيّرَتْ بينَ الرُّجوعِ إلى أبيها والبقاءِ معَ هذا الرَّجُلِ فاختارتْهُ على أَبيها مَعَ أنَّ أباهَا كانَ وجيهًا في قومِه وكريمًا وسَخيًّا وكانَ حليمًا ومعروفًا بالذِّكرِ الحسَنِ عندَ الناسِ، فغضِبَ منها وحلَفَ إنْ جاءتْهُ بَناتٌ بعدَ ذلك أنْ يدفِنَهُنَّ وهُنَّ حيَّات، فكانَ كُلَّما وُلِدَتْ له واحدةٌ يدفنُها إلى أنِ اكتملَ عدد ثمان، ثم بعدَ أن أسلمَ نَدِمَ على ما فعلَ ندمًا شديدًا فجاءَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وأدتُ ثماني بناتٍ لي في الجاهليةِ فقال له عليهِ السَّلام (أَعْتِقْ عَنْ كلِّ واحدةٍ منها رَقَبَة) فقال: أنا صاحِبُ إِبِل، قال (أَهْدِ إنْ شِئْتَ عَنْ كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ بَدَنَة)، فتصدَّقَ بنحوِ مائةٍ منَ الإبِل.
ثم إنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى ذكرَ في القرءانِ الكريم تقبيحَ هذا الأمرِ أي وأْدِ البنات، فقالَ عزَّ مِن قائل (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) سورة التكوير، لأنَّه مِنْ أشنَعِ الجرائِم، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ أجرَ الذي رأَى عورةَ مُسلمٍ أي ما يُعابُ عليه ويَستَحي منه لو اطَّلعَ عليه الناسُ فَسَتَرها عليه بأجْرِ الذي رأَى موءُودةً فأنقَذَهَا قبلَ أنْ تموتَ وتختَنِقَ في الترابِ، في القبر.
ومما يدلُّ على قُبحِ هَتْكِ العَوْراتِ أنه جاءَ رجلٌ إلى عمرَ بنِ الخطابِ أميرِ المؤمنينَ رضي الله عنه وقال له: يا أميرَ المؤمنين إني كنتُ وأَدْتُ بنتًا لي في الجاهليةِ، دفنتُهَا ثم أخْرَجْتُها قبلَ أن تموتَ ثم أَدْرَكَتِ الإسلامَ فأَسْلَمَتْ بعدَما كبِرَت (يعني ابنته) ونحنُ أسلَمنا ثم ارْتَكَبَتْ حَدًّا مِنْ حُدودِ الله وهي شابَّةٌ فأَخَذَتْ شَفْرةً لِتَذْبَحَ نفسَها (أي مِن عُظْمِ ما وَقَعَتْ فيهِ منَ الفَضيحة) فأدرَكْنَاهَا وقدْ قَطَعَتْ بَعْضَ أوداجِها (وهي عروقُ العُنُقِ مِنَ الجانِبَيْن) فداوَيْنَاها ثم تابَتْ تَوبةً حَسَنةً ثم خُطِبَتْ إلينَا مِنْ قومٍ فأخبرتُهم ببعضِ ما جَرى لها وأنَّ ابنَتِي كانَ سَبَقَ لها كذا وكذا مما هو عارٌ وعَيبٌ حتى يُقْدِمُوا على إتمام خِطبَتِها أو يتركُوها (يزعُمُ أنه ينصَحُ الذي خَطَبَها) فقالَ لهُ عمرُ: أنتَ تَبُثُّ عيبًا سَتَرهُ اللهُ تعالى؟ لَئِنْ أخْبَرْتَ بذلكَ أحدًا لأجعلنَّكَ نَكالاً يتحدَّثُ بهِ أهلُ الأمصَار. معناهُ لَئِنْ عُدْتَ بعدَ هذا إلى إشاعةِ هذه الفاحشةِ التي سَبَقَتْ لابنَتِكَ لأَجْعلنّكَ نَكالا أي عِبرةً للناسِ بعقوبةٍ أُنْزِلُها بكَ يتحدثُونَ بها.
يُؤخَذُ مِنْ هذهِ القصةِ أنَّ المسلمَ العاصيَ بعدَ أن يتوبَ لا يجوزُ ذِكرُه بالعارِ والعَيبِ الذي سَبَقَ لهُ مهمَا كانَ ذلك العارُ، ومهما كانت تلك الفاحشةُ لا يجوزُ أن تُكشفَ بعدَ أن يتوبَ ذلك المسلمُ أو تلك المسلمة لأنَّ العِبرةَ بحالِه اليوم، والإنسانُ يَنْتَقِلُ مِنْ حالٍ إلى حالٍ في عُمره، قد تحصلُ منه شَنيعَةٌ مرةً ثم أُخرى ثم يتطهرُ منْ هذهِ الشنائعِ ويصيرُ إنسانًا تقيًّا طاهرًا.
فالحذرَ الحذرَ إخوةَ الإيمانِ مِنْ هَتكِ سِتْرِ مُسلمٍ إنْ علمتُم منه زَلةً وقد ستَرها اللهُ تعالى ما لم يأذنِ الشرعُ بذلكَ، واحذَرُوا أن تكونوا ممن يتمادَونَ في تهشيمِ عِرْضِ المسلمِ أي يُكثرونَ الوَقيعةَ فيه أينمَا ذَهبُوا ويتَّخذونها عادةً لهم منْ غيرِ سببٍ شرعيٍّ، فهؤلاءِ ذنبُهم كذنبِ أشَدِّ الرِّبا فقد قالَ عليه الصلاةُ والسلام (إنَّ مِنْ أربَى الرِّبا الاستطالةَ في عِرضِ المُسلمِ بغَيرِ حَق) رواه أبو داود.
وكثيرا ما يُؤدي إلى قطيعةٍ وهَجرٍ بين الإخوةِ في الدِّين، فمَن كانَ مَظلومًا فلا يتكلَّمْ إلا بحقِه وليَحْذَرْ أنْ يفعلَ ما يُغضِبُ ربَّه وليَكُنْ وقّافًا عندَ حدودِ اللهِ وقَّافًا عندَ كتابِ الله ساترًا لِعُيوبِ المسلمين مُحسنًا للمُسِيء إليه. وأما الإنسانُ الذي يغُشُّ في تجارتِه أو تدريسِه باسمِ الدِّين أو عِلمِ الدُّنيا أو الطِّبابةِ أو الصناعةِ أو غيرِ ذلك منْ سائرِ فنونِ المعاملاتِ فهذا يجبُ التحذيرُ منه وبيانُ غِشِّهِ للناس من بابِ النصيحةِ وقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (الدِينُ النَّصيحة، قُلنا لِـمَنْ، قالَ للهِ ولِكتابِه ولرسولِه ولأئمةِ المُسلمينَ وعامّتِهم) رواه مسلم.
أخي المسلم، لقد حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على سَترِ العوْرات بأحاديثَ كثيرةٍ منها قولُه صلى الله عليه وسلم (لا يَسْتُرُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا إلا سَتَرَهُ اللهُ يومَ القيامة) رواه مسلم.
وقد قالَ الشاعر:
إذا شِئتَ أن تَحيا سليمًا مِنَ الأَذى *** وحَظُّكَ مَوفُورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لسانُكَ لا تذكرْ بهِ عورةَ امْرىءٍ *** فكلُّكَ عوْراتٌ وللناسِ أَلْسُنُ
وعينُكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِبًا *** فَصُنْها وقُل يا عينُ للنَّاسِ أعينُ
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ منِ اعتَدَى *** وفارِقْ ولكنْ بالتي هي أحسَنُ
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.