الإمام الفقيه المالكي يحيى بن عمر
2 يناير 2021معنى قول بعض العلماءِ (لازمُ المذهبِ مذهبٌ) وقول بعضهم (لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا) وكيف يجمع بينهما وكيف خلط بعض الجهال بينهم (3)
3 يناير 2021معنى قول بعض العلماءِ (لازمُ المذهبِ مذهبٌ) وقول بعضهم (لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا) وكيف يجمع بينهما وكيف خلط بعض الجهال بينهم (2)
معنى قول بعض العلماءِ (لازمُ المذهبِ مذهبٌ) وقول بعضهم (لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا) وكيف يجمع بينهما وكيف خلط بعض الجهال بينهم (2)
ومثال على اللازم غير البيِّن قول المعتزلة في رُؤْيَة أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ دُخُوْلِهِمُ الْجَنَّةَ فَإِنَّ أُنَاسًا فِيْ الْمَاضِيْ أَنْكَرُوْا هَذَا الْأَمْرَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّجْسِيْمُ وَالتَّشْبِيْهُ أَيْ ظَنَّوا أَنَّ إِثْبَاتَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبَّهِمْ يَلْزَمُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْحَجْمِ للهِ فقالوا لا يصح أن يرى إلا من كان في جهة وله حدٌ وحجم، فَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ كَثِيْرٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ بَلْ فَسَّقُوْهُمْ لأنها بدعة اعتقادية فقد قالوا لا يصح أن يرى إلا ما هو جسم وجهة وله حدٌ فنفوا الرؤيا وتأولوا الآيات والأحاديث التي وردت في ذلك فلَمْ يُكَفِّرْهُمْ كَثِيْرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ اللَّازِمَ غَيْرُ وَاضِحٍ غَيْرُ بَيِّنٍ همْ مَنَعُوْا الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يُؤَدِّيْ إِلَى التَّشْبِيْهِ. هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْكَارُ وُجُوْدِ اللهِ لكن اللازم هنا غير بيِّن، أما نَحْنُ أَهْلُ السُّنَّةِ نَقُوْلُ كُلُّ مَوْجُوْدٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى فنؤْمِنُ بِرُؤْيَةِ أهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ لِوُرُوْدِ الرِّوَايَاتِ بِهَا أَيْ لَا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوْقُ.
وأما مثالٌ على اللازم البيِّن قول المعتزلةِ إن الله لا يُوصفُ بالعلمِ والسمعِ والبصرِ والقدرةِ والإرادةِ والتخليقِ والتكوينِ ونحوها من الصفات الذاتيةِ والفعليةِ فقالوا عالمٌ لنفسِهِ، قادرٌ لنفسهِ لا بعلمٍ ولا قدرةٍ، فيكونُ مذهبُ المعتزلةِ في المعنى نفيُ العالِمِيَّةِ والقادِرِيَّةِ عن الله، ولا يُقال هنا لازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ أي لا يلزمُ من نَفْيِهِم اتصاف الله بالعلمِ نفيُ كونِهِ عالمًا لأن هذا من اللازمِ البيِّن، لأنه لا يصحّ في العقلِ عالمٌ بلا علمٍ كما لا يصحُّ عالمٌ بلا معلومٍ، وكما لا يصحُّ ضاربٌ بلا ضربٍ ولا مضروبٍ.
فمن هنا يعرف معنى قول العلماءِ (لازمُ المذهبِ مذهبٌ) أي أنه يلزمُ من قول المعتزلةِ عالمٌ لا بعلمٍ نفيُ للعالِمِيّةِ، أي أن قولَ إنهُ عالمٌ بلا علمٍ معناهُ ليس بعالمٍ، فمذهبُهُم أن الله عالمٌ لا بعلمٍ يلزمُ منهُ نفيُ العالِمِيّةِ عن الله، هذا معنى لازمُ المذهبِ مذهبٌ، فهذه من البدع الاعتقادية التي كفرهم العلماء عليها وإن قال المعتزلي أنا لا أقول أنه يلزم منه نفي الصفة أي لا ألتزم اللازم فهذا لا عبرة بنفيه للازم لأنه لازم بيِّن.
وكذلك يعرف مما ذكرنا معنى قولُ بعضِ العلماءِ (لازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ) إذا لم يكن اللزومُ بيِّنًا، ففي هذه الحالِ أي حالِ كونِ اللازمِ بيِّنًا يكونُ مذهبًا على القولينِ أي عند الذينَ قالوا لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا، وعند الذينَ قالوا لازمُ المذهبِ مذهبٌ، فقول المعتزليّ إن اللهَ قادرٌ بذاتهِ على الممكنات العقليةِ لا بقدرةٍ يلزمُ من ذلكَ نفيُ كونِهِ قادرٌ، وكذلكَ لازمُ قولهِ عالمٌ بذاتهِ لا بعلمٍ وهكذا من بابِ اللازمِ البيِّنِ.
وبمعنى ءاخر أن الذي يُحكمُ عليه بالكفرِ من كان الكفرُ صريحَ قولهِ، وكذا من كان لازِمَ قولِهِ وعُرِضَ عليهِ فالتزمه، أي عُرِضَ عليهِ اللازمُ فقبلهُ بأن قيل له هذا يلزمُ منهُ كذا، تقْبَل ذلكَ؟ قال أقبلُ، وكان ذلك اللازمُ كفرًا، أما من لم يلتزمْهُ وناضل عنهُ فإنه إن كان بيِّنًا لا ينفعه ذلك فهو كصريح قوله وأما إن لم يكن بيِّنًا فإنهُ لا يكونُ كافرًا كما مثلنا، ولو كانَ اللازمُ كفرًا، لأنه لم يلتزمه وليس بيِّنًا وينبغي حملُهُ على غير القطعيِّ كما بيَّنَا.
والحاصِلُ في مسألة اللُزومِ والالتزامِ أن من لزمَ من رأيِهِ كفرٌ لم يشعر بهِ وإذا وُقِفَ عليهِ أنكرَ اللُزومَ وكان في غير الضرورياتِ وكان اللُزومُ غيرَ بيِّنٍ فهو ليسَ بكافرٍ، وإن سلّم اللُزومَ وقالَ إن اللازمَ ليسَ بكُفرٍ وكان عندَ التحقيقِ كُفرًا فهو إذًا كافرٌ، وإن أنكرَ اللُزومَ وكان في الضرورياتِ أو كان اللُزومُ بيِّنًا فهو كافر.
وبناءًا على هذه القواعد الشرعية فإن القائلينَ بالجهةِ يلزمُ من كلامِهِم التجسيمُ ولو أنكروا التزامهم الجسميةَ في حقِّ اللهِ، إذ إنّ كلَ من كان في جهةٍ لا بد أن يكونَ لهُ حجمٌ كبُرَ أو صغُرَ، فالجوهرُ الفردُ لهُ حيِّزٌ ومكانٌ وجهةٌ كما أن الجسمَ المركبَ له حيِّزٌ ومكانٌ وجهةٌ، إذ لا يُعقلُ جسمٌ لا في مكانٍ وجهةٍ، لذلكَ لازمُ مذهبِ القائلينَ بالجهةِ إثباتُ الجسميةِ حتى لو هم نفوْها عن أنفسِهِم.
فالشَّرعُ لم يرد فيهِ إطلاقُ الجهةِ والجسميةِ في حقِّ اللهِ، والعقلُ ينفي الجهةَ والجسميةَ في حقِّه تعالى، إذ إنهُ كما لا يُعقلُ وجودُ الجوهرِ والجسم لا في مكانٍ وجهةٍ لا يُعقلُ وجودُ ما ليسَ بجوهرٍ وجسمٍ في مكانٍ وجهةٍ، وقد ثبتَ شرعًا وعقلًا أن اللهَ ليسَ بجوهرٍ ولا جسمٍ، ثبتَ شرعًا وعقلًا أن اللهَ كانَ موجودًا قبلَ الجهاتِ وأنهُ لا يتغيّرُ وبعد أن خلقَ الجهاتِ ما زالَ موجودًا بلا جهةٍ، وكما قُلنا سابقًا من مقتضياتِ الجهةِ إثباتُ الجسميّةِ، فلازمُ مذهبِ القائلينَ بالجهةِ إثباتُ الجسميّةِ حيثُ قامت البيِّنةُ على ذلكَ ولأنَّ نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ التي لا يغفلُ عنها صاحبُ العقلِ السليمِ فلا يُعذرُ القائلينَ بها لجهلهم.
لذا فإن القائلينَ بالجهةِ إن سلّموا اللُزومَ وقالوا إن اللازمَ ليسَ بكفْرٍ لا يُعتدُّ بكلامِهم لأنه عند التحقيقِ كُفرٌ، وإن لم يُسلِّموا اللُزومَ فلا عِبرةَ بكلامِهِم بل يكَفّرونَ، لأن نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ ومنَ الأمورِ المُجمعِ عليها المعلومةِ من الدينِ بالضّرورةِ والتي يستقِل العقلُ السليمُ بإدراكِها.
يتبع في الجزء الثالث.