الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه
5 فبراير 2017الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
5 فبراير 2017الإمام الشافعي رضي الله عنه
الإمام الشافعي رضي الله عنه
ولدَ الإمامُ الشافعيُّ بغزةَ ونشأَ بعسقلانَ وانتقلَ إلى مكةَ ليتزودَ من العلمِ، مَعَ أنهُ نشأَ في أسرةٍ فقيرةٍ، فلقد ماتَ أبوهُ وهو صَغيرٌ فعاشَ في ضِيقٍ، ولكنَّ هذا لم يمنعْهُ من العلمِ والمعرفةِ، فقد وصَلَ بهِ الأمر إلى كتابةِ العلمِ الذي يأخذُهُ على قطعِ الجلودِ وسَعَفِ النَخْلِ لضِيقِ ذاتِ يدهِ وعدمِ قدرتهِ على شراءِ الوَرَقِ.
حفظَ القرءانَ الكريمَ وهو ابنُ سبعِ سنواتٍ، وأخذَ يحفظُ الأحاديثَ النبويةَ ويكتُبُها، ورحَلَ إلى الصحراءِ لطلبِ اللغةِ العربيةِ والشِعْرِ وبقيَ فيها عشرَ سنواتٍ، وتعلَّمَ الرميَ بالسهامِ فكانَ يصيبُ عَشَرةً من عَشَرَةِ، ولكنَّهُ كانَ في طَلَبِ العلمِ الشرعي مُجِدًّا صادِقَ الهمةِ، ماضِيَ العزيمَة أُذِنَ لهُ وهو بمكةَ بالإفتاءِ رَغمَ حداثةِ سِنّهِ، ولكنهُ لم يكتفِ بذلكَ فسافرَ إلى المدينةِ ليتفقهَ على يدِ إمامِها مالكِ بنِ أنسٍ. استعارَ كتابَ الموطأِ للإمامِ مالكٍ فحفِظَهُ؛ وهنا نَلْحَظُ أنه لم يكنْ يستطيعُ أن يشتريَ الكُتُبَ من شدةِ الفقرِ، ولم يثْنِهِ ذلكَ عن مَقْصودهِ ومبتغاهُ وهو يعلمُ أن الله إذا أحبَّ عبدًا يُهيئ لَهُ من يعلِمُهُ أمورَ الدينِ على الوجهِ الصحيحِ، فلما أتى مجلسَ مالكٍ سألَهُ الإمامُ مالِكٌ عن اسمهِ فقالَ: محمدٌ، فقالَ لَهُ (اتقِ الله يا محمدُ واجتنبِ المعاصيَ فإنهُ سيكونُ لكَ شأنٌ، إن الله قد ألقى على قلبِكَ نورًا فلا تُطْفِئْهُ بالمعصيةِ).
ثمَ أخذَ الشافعيُّ يقرأُ على مالكٍ ويتلقى العلمَ منهُ، وظلَّ مَعَهُ يروي عنهُ إلى أن ماتَ الإمامُ مالِكٌ رحمهُ الله تعالى.
وقد نبغَ الشافعيُّ نبوغًا عظيمًا وعلا شأنهُ وسما عِلْمهُ، وقد تحقَّقَ فيهِ قولُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في الحديثِ الشريفِ (لا تَسُبُّوا قريشًا فإنَّ عالمها يملأ طِبَاقَ الأَرضِ عِلْمًا) ومعناهُ سيأتي عالمٌ من قريشٍ يملأُ جهاتِ الأرضِ علمًا، ففكرَ العلماءُ على من ينطبقُ هذا الحديثُ فوجدوهُ ينطبقُ على الإمامِ الشافعيّ لأنهُ من قريشٍ، أما الثلاثةُ الآخرونَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ فليسوا من قريشٍ.
وقد أكرمَ الله تعالى الشافعيَّ بمواهبَ عديدةٍ منها حُسنُ الصوتِ، حتى إنهُ لما كان يقرأُ القرءانَ وهو فتًى كان يقصِدُهُ الناسُ للاستماعِ إلى صوتهِ الشجيِّ، وكان بعضُ الجالسينَ المستمعينَ لقراءتهِ يتساقطونَ من شدةِ خشيةِ الله وما ذاكَ إلا لسِرّ في قراءَتهِ.
ومما ورد في عبادتِه رحمه الله ما رُوي مِن أنه كان يُقَسِّم الليلَ إلى ثلاثةِ أجزاء: ثُلُثٌ للعلم، وثلثٌ للعبادة، وثلثٌ للنوم.
وورد في زهدِ الإمام الشافعي أنه قال: ما شبعتُ منذُ ستَ عشرةَ سنة، لأنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ البدن، ويُقَسِّي القلب، ويزيلُ الفِطْنَة، ويجلبُ النوم، ويضعفُ صاحبه عن العبادة.
وورد في ورعه أنه مرة سُئل عن مسئلة، فسكتَ فقيل له: ألا تجيبُ رحمكَ الله!، فقال: حتى أدري، الفضلُ في سُكوتي أو في جوابي؟
ومِن أهم ما في حياةِ الإمام الشافعي، رحمه الله، منهجُه في العقيدة، والتزامُه نهجَ الكتاب والسنة، وما عليه سلفُ الأمة من تنْزيه الله تعالى عن الجسم والمكان، ومن تكفيره للمجسمة الذين يصفون الله بصفاتِ المخلوقات، ومنْ تكفيرِ الذين ينسبونَ الجلوس لله تعالى، والعياذ بالله، ومن أقواله في العقيدةِ الحقةِ ما نقله عنه الزبيديّ في كتاب إتحافِ السادةِ المتقين أنه قال ما نصُّه:
إنَّه تعالى كانَ ولا مَكَان، فخَلَقَ المكانَ، وهو على صفةِ الأزليةِ كما كانَ قبلَ خَلْقِه المكان، لا يجوزُ عليهِ التغيّرُ في ذاتِه ولا التبديلُ في صفاتِه. اهـ
ورَوَى الحافظُ السُّيوطيُّ في كتابِه الأشباه والنظائر عن الإمامِ الشافعي أنه قال: -المجسِّمُ كافرٌ-.
وفي كتابِ نجم المهتدي ورجم المعتدي للإمام ابنِ الـمُعَلِّم القرشيِّ أن الإمامَ الشافعيَّ رضي الله عنه قال: -مَنْ يعتقدُ أنَّ اللهَ جالسٌ على العرشِ فهو كافر- كما حكاهُ القاضي حسين عن نص الشافعي.
وقال أيضا: -منِ انتهضَ لمعرفةِ مُدَبِّرِهِ فانتَهَى إلى موجودٍ يَنْتَهِي إليه فِكْرُهُ فهو مُشّبِّهٌ، وإنِ اطمأنَّ إلى العَدَمِ الصِّرفِ فهو مُعَطِّلٌ، وإنِ اطمأنَّ إلى موجودٍ واعترفَ بالعجزِ عنْ إدراكِهِ فهوَ مُوَحِّدٌ-. انتهى كلامُ الإمام الشافعي.
أما عن وفاةِ الإمامِ الشافعيِّ فقد حُكيَ أنَّ الإمامَ المزنيَّ دخَلَ على الإمامِ الشافعيِّ في مَرَضِهِ الذي ماتَ فيه فقال: كيفَ أصبحتَ؟ فأجابه قائلا: أصبحتُ مِنَ الدُّنيا راحِلا، وللإخوانِ مُفَارِقا، ولسيِّئ عَمَلِي مُلاقيا، ولِكَأْسِ المنِيَّةِ شاربًا، وإلى ربي واردًا، لا أدري تصيرُ روحِي إلى الجنَّةِ فأُهَنِّيْهَا، أو إلى النَّارِ فأُعَزِّيها ثم أنشدَ قائلا:
ولما قسَا قلبي وضاقتْ مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ الرَّجا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّما
تَعَاظمني ذنبي فلما قَرَنْتُهُ *** بِعَفْوِكَ ربي كانَ عفوُكَ أعظَما
وما زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عنِ الذنبِ لم تَزَل *** تجودُ وتعفو مِنَّةً وَتَكَرُّما
يقول الحافظ الخطيبُ البغداديُّ في تاريخ بغدادَ :
قالَ سمِعتُ نَصرَ بنَ المكّي يقولُ سمعتُ ابنَ عبدِ الحكَم يقولُ لمّا أنْ حمَلَت أمُّ الشّافِعيّ بهِ رَأت كأنَّ المشتَرِي خَرجَ مِن فَرْجِها حتى انقَضّ بمصرَ ثم وقَعَ في كُلِّ بَلدٍ مِنه شَظِيّةٌ فتَأوّلَ أَصحَابُ الرؤيا أنّه يخرُج مِنها عَالمٌ يخُصُّ عِلمُه أهلَ مصرَ ثم يَتفرّقُ في سَائرِ البُلدَان.
ثم قال أنبأنا الربيع قال سمعتُ الشافعي يقولُ كنتُ أَلزَمُ الرَّميَ حتى كانَ الطّبيبُ يقولُ لي أخافُ أن يُصِيبَكَ السُّلُّ مِن كَثْرةِ وقُوفِك في الحرّ .
قال: وقال ليَ الشّافعيُّ كنتُ أُصِيبُ مِن عَشرةٍ تسعةً، أو نحوًا مما قال (وكانَ رضي الله عنه يتَعمّد عدَم إصابةِ العاشِرةِ حِفظًا من العَين).
ثم قال: يقولُ المُزنيّ سمعتُ الشافعيَّ يقولُ رأيتُ عليَّ بنَ أبي طالب في النّوم فسلَّم عليّ وصافَحني وخَلَع خاتمَه وجعلَهُ في إصبَعي، وكانَ لي عمٌّ ففَسّرها لي فقال لي أما مُصافَحتُكَ لِعَليّ فَأَمْنٌ مِنَ العَذابِ وأمّا خَلعُ خاتَمِه فجَعْلُه في إصبَعِكَ فسيَبلُغُ اسمُكَ ما بلَغَ اسمُ عَليٍّ في الشّرق والغَربِ.
ثم قال عن إسماعيلَ بنِ يحيَى قال سمعتُ الشّافِعيَّ يَقولُ حَفِظتُ القُرءانَ وأنا ابنُ سَبعِ سِنينَ وحَفِظتُ الموطَّأ وأنا ابنُ عَشرِ سِنينَ.
ثمّ قال سمعتُ أبا بكرٍ محمدَ بنَ أحمدَ بنِ عبدِ الله بنِ محمدِ بنِ العبّاسِ ابنِ عثمانَ بنِ شافعِ بنِ السّائِبِ الضَّرِير بمكّةَ يقولُ قال أبي سمعتُ عمّي يقولُ سمعتُ الشّافعيَّ يقولُ أَقَمْتُ في بُطُونِ العَربِ عِشرِينَ سَنةً ءاخُذ أشعَارَها ولُغاتِها وحفِظتُ القُرءانَ فما علِمتُ أنّه مَرّ بيْ حَرفٌ إلا وقَد عَلِمتُ المعنى فيه والمرادَ ما خَلا حرفينِ. قال أبي حفِظتُ أحدَهما ونسِيْتُ الآخرَ، أحَدُهُما: دَسّاها.
ثم قال: قالَ حدّثني الحسَينُ بنُ عليّ يعني الكَرابِيسيَّ قالَ بِتُّ مع الشّافعيِّ غَيرَ ليلةٍ فكانَ يُصلّي نحوَ ثُلثِ اللّيلِ فَما رأَيتُه يَزيدُ على خمسينَ ءايةً فإذَا أكثرَ فمائةً وكانَ لا يمرُّ بآيةِ رحمةٍ إلا سألَ اللهَ لنَفسِه وللمؤمنينَ أجمعينَ ولا يمرُّ بآيةِ عَذابٍ إلا تعوَّذَ منها وسَألَ النّجاةَ لنفسِه ولجميعِ المسلمينَ .قال فكأنَّما جُمِعَ لهُ الرّجاءُ والرّهبَةُ جمِيعًا.
ثم قال: قال سمعتُ الرّبيعَ بنَ سُليمانَ يقولُ كانَ الشّافعيُّ يختِم في كلِّ ليلةٍ ختْمَةً فإذا كانَ شَهرُ رمضانَ خَتمَ في كلِّ لَيلةٍ مِنه خَتمَةً وفي كلِّ يوم خَتمَةٍ، فكانَ يختِمُ في شَهرِ رمضانَ سِتّينَ خَتمةً.
ثم قال سمعتُ بَحرَ بنَ نَصرِ يقولُ كُنّا إذا أَردنَا أن نَبكِي قُلنا بَعضُنا لبعضٍ قُومُوا بنا إلى هذا الفَتى المطَّلبيّ نَقرأ القرءانَ، فإذا أتَيناهُ استَفتَح القرءانَ حتى يتَساقَط النّاسُ بينَ يدَيهِ ويَكثرَ عَجِيجُهم (أي رفعُ صَوتهِم) بالبُكاء فإذا رأى ذلكَ أمسَكَ عن القراءةِ مِن حُسنِ صَوتِه.
ثم قال: قال أنبَأنا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عبدِ الرحمن بنِ الجارُود الرَّقّي قال سمعتُ الرّبيع بنَ سُليمانَ يقولُ كانَ الشّافعيّ يُفتي ولهُ خمسَ عشْرَة سنةً وكان يُحيى الليلَ إلى أن ماتَ.
ثم قال: قال أنبأنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ قال قلتُ لأبي يا أبتِ أيَّ شَىءٍ كانَ الشّافعيُّ فإنّي سمعتُكَ تُكثِرُ منَ الدُّعاءِ لهُ فقالَ لي يا بُنيّ كانَ الشّافعيُّ كالشّمسِ للدُّنيا وكالعافِيةِ للنّاسِ فانظُر هل لهذَينِ مِن خَلفٍ أو مِنهُمَا عِوَضٌ.
ثم قال: قال سمعتُ أبا داودَ سُليمانَ بنَ الأشعثَ يقولُ ما رأيتُ أحمدَ ابنَ حنبل يميلُ إلى أحدٍ مَيلَهُ إلى الشافعيّ.
ثم قال سمعتُ المُزنيَّ يقولُ رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنامِ فسَألتُه عن الشافعيّ فقال لي مَن أرادَ محبَّتي وسُنّتي فعَليه بمحمدِ بنِ إدريسَ الشافعيِ المطّلبيِّ فإنّه مِنّي وأنَا مِنهُ .(أي محبَّتي لهُ تامّة ومحبّتُه لي تامّة).
ثم قال حدثني الربيعُ بنُ سُلَيمانَ قال رأيتُ الشّافعيَّ بعدَ وفَاتِه في المنَام فقلتُ يا أبا عبدِ الله ما صَنعَ اللهُ بكَ قالَ أَجْلَسَني على كُرسِيّ مِن ذهَبٍ ونَثَر عليَّ اللؤلؤَ الرَّطْبَ. اهـ
وكُشِفَ قَبرُ الشّافعيِّ يومًا فخَرجَت مِن قَبرِه رائِحةُ الطِّيبِ وغَّيّبت بعضَ الحاضِرينَ عن حِسّهِم.
فجزى اللهُ علماءَ أُمَّةِ محمدٍ عنّا خيرًا فهمُ البَلْسَمُ في زمنٍ خيَّمَ فيهِ الفسادُ والضلالُ والظلامُ.
1 Comment
العلامة محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه