شَيْخُ الإِسْلاَمِ إِمَامُ الـحـُفَّاظِ سَيِّدُ العُلَمَاءِ العَامِلِيْنَ فِي زَمَانِهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ الثَّوْرِيُّ الـمُجْتَهِدُ
9 نوفمبر 2016الإمام علي الرضا رضي الله عنه
9 نوفمبر 2016الإِمَامُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ عَالِمُ زَمَانِهِ وَأَمِيْرُ الأَتْقِيَاءِ فِي وَقْتِهِ الحَافِظُ عبد الله بن المبارك
الإمام عبد الله بن المبارك
الحمد لله الذي قيض للإسلام أفذاذًا من الرجال، يذودون عن حياضهِ كل مبتدع دجال، ويمتثلون أمر الله عز وجل أحسن امتثال، لهم البشرى في الحياة الدنيا ولهم عقبى الدار وحسن مآب، ومن هؤلاء الرجال عبد الله بن المبارك.
نسبه ومولده:
الإِمَامُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، عَالِمُ زَمَانِهِ، وَأَمِيْرُ الأَتْقِيَاءِ فِي وَقْتِهِ، الحَافِظُ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عبد الله بن المبارك بن واضح الحَنْظَلِيّ المَرْوَزِيّ وهو من تابعي التابعين وأُمُّهُ خُوَارِزْميَّةٌ.
أبوه رجل صالح تقي كثير الانقطاع للعبادة شديد الورع حتى إنّ له قصة عجيبة وهي أنّ مولاه طلب منه يومًا أن يحضر له رمانًا حلوًا فأحضره فإذا هو حامض، فغضب مولاه ثم تكرر ذلك ثلاث مرات وفي كل مرة يكون حامضًا، قال له مولاه أنت لا تعرف الحامض من الحلو؟ فقال المبارك ما أكلتُ منه شيئًا حتى أعرفه، قال لمَ لم تأكل؟ قال المبارك لأنك ما أذنت لي بالأكل منه، فعجب صاحب البستان وعظم في عينه وزاد قدره عنده وكانت له بنت خُطبت كثيرًا فقال يا مبارك من ترى تزوّج هذه البنت؟ فقال أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب واليهود للمال وهذه الأمة للدين، فأعجبه عقله وأخبر الرجل زوجته وقال لها ما أرى لهذه البنت زوجًا غير مبارك فتزوجها، ثم ولدت له عبد الله فِي سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمائَةٍ للهجرة في مدينة مرو أشهر مدن خراسان فتمت عليه بركة أبيه وأنبته الله نباتًا صالحًا.
طلبه للعلم:
طَلَبَ العِلْمَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِيْنَ سَنَةً، حيث كان يتردد إلى الكُتّاب يتلقى هناك بعض العلوم وبدت عليه ملامح الذكاء منذ صغره، شهد بذلك أصدقاؤه الذين كانوا معه في ذلك الوقت، أما طلبه للعلم فما فتئ يطلب العلم وما فتر عن السفر فقد ارْتَحَلَ ابْنُ المُبَارَكِ إِلَى الحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقَ وَالجَزِيْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَحَدَّثَ بِأَمَاكِنَ.
سَمِعَ مِنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، وَالأَعْمَشِ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيْفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ.
حَدَّثَ عَنْهُ مَعْمَرٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الفَزَارِيُّ وَابْنُ مَعِيْنٍ وَطَائِفَة.
كان حجة في الحديث، صنف ابن المبارك كتبًا كثيرة، كتب في أبواب الفقه والزهد وغير ذلك وله تفسير للقرآن الكريم، وكتاب التاريخ، وكتاب الفتاوى، والسنن في الفقه، وكان ابن المبارك رجلا يحفظ حق أساتذته وشيوخه فلم يحدث في وجود أحد منهم، ولكن محبيه طلبوا ذلك في وجود حماد بن زيد وهو من هو في العصر، فما عسى ابن المبارك أن يفعل؟
قَالَ إِسْمَاعِيْلُ الخُطَبِيُّ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُ حضَرَ عِنْدَ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، فَقَالَ أَصْحَابُ الحَدِيْثِ لِحَمَّادٍ سَلْ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ يُحَدِّثَنَا، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! تُحِدِّثُهُم، فَإِنَّهُم قَدْ سَأَلُوْنِي؟ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ! يَا أَبَا إِسْمَاعِيْلَ، أُحَدِّثُ وَأَنْتَ حَاضِرٌ، فَقَالَ أَقسَمتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، فَقَالَ خُذُوا، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيْلَ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، فَمَا حَدَّثَ بِحَرْفٍ إِلاَّ عَنْ حَمَّادٍ، وقد سمع ابن المبارك يقول إعظاما لقدر حماد بن زيد:
أَيُّهَا الطَّالبُ عِلْمًا *** إِيتِ حَمَّادَ بنَ زَيْد
فَاستَفِدْ حِلْمًا وَعِلْمًا *** ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْد
لا كثور وكجهم *** وكعمرو بن عبيد
كراماته:
أما كرامات عبد الله بن المبارك فكثيرة، فقد ورد في تاريخ بغداد عن أَبي وَهْبٍ قال مَرَّ ابْنُ المُبَارَكِ بِرَجُلٍ أَعْمَى، فَقَالَ لَهُ أَسْأَلُكَ أَنْ تَدعُوَ لِي أَنْ يَرُدَّ الله عَلَيَّ بَصَرِي فَدَعَا اللهَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَأَنَا أَنْظُرُ.
ورُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الله بنَ المبارَكِ كَانَ يَغْزُو عَامًا ويَحُجُّ عَامًا ففي عَامٍ مِنْ أَعْوَامِ حَجّهِ في سَفَرِهِ إلى الحَجّ وَجَدَ في مَغَارَةٍ امرأةً تَلتقِطُ هِرَّةً وَتَذْبَحُهَا للأَكْلِ، فَذَكَّرَهَا بالآية ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنـزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾ 173 سورة البقرة، فَأَجَابَتْهُ ِبَاقِي الآيةِ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فَلَمَّا عَلِمَ بأنَّها مُضْطَرَّةٌ لِتُطْعِمَ أَوْلادَهَا الجياعَ الذينَ عَضَّهُمُ الجوعُ بِنَابِهِ وَشَارَفوا عَلى الهَلَاكِ وَلَمْ يَجِدُوا سِوَى المَيْتَة أَعْطَاهَا مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ وَطَعَامٍ إلا مَا يَكْفِيْهِ لِلرُّجُوعِ إلى بَلَدِهِ وَلَمْ يَحُجَّ تلك السَّنَةَ، فَلَمَّا رَجَعَ الناسُ مِنَ الحَجّ جَاؤوا يُهَنِـّئونَهُ بِالحَجّ فَقَالَ لَهُم بِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ هذِهِ السَّنَةَ فَقَالوا لَهُ كَيْفَ هذا وَقَدِ اجْتَمَعْنَا بِكَ وَرَأَيْنَاكَ في عَرَفَات وَعِنْدَ الكَعْبَةِ وَفي مِنًى والمسْعَى، فَقَالَ أَهلُ العِلْمِ هذا مَلَكٌ أُرسِلَ بِصُورَتِهِ فَحَجَّ عَنْهُ.
قوة حفظه للعلم والحديث:
قَالَ الحَسَنُ بنُ عِيْسَى أَخْبَرَنِي صَخْرٌ (صَدِيْقُ ابْنِ المُبَارَكِ) قَالَ كُنَّا غِلْمَانًا فِي الكُتَّابِ فَمَرَرْتُ أَنَا وَابْنُ المُبَارَكِ وَرَجُلٌ يَخطُبُ فَخَطَبَ خُطْبَةً طَوِيْلَةً فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لِي ابْنُ المُبَارَكِ قَدْ حَفِظتُهَا فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقَالَ هَاتِهَا فَأَعَادهَا وَقَدْ حَفِظَهَا، كان يتمتع بحافظة نادرة حتى روي أنه قال ما أودعت قلبي شيئًا قط فخانني.
عقيدته:
أما عقيدته فكانت عقيدة أهل السنة والجماعة، كان حربًا على أهل البدع الضلالية كالمعتزلة والمرجئة والجهمية والمجسمة، وروي أن جهما ذكر عنده فقال عَجِبتُ لِشَيطَانٍ أتَى النَّاسَ دَاعِيًا إلى النَّارِ واشتُقَّ اسِمُهُ مِن جَهَنَّمِ، أما قوله في أحاديث الصفات فكما قال الزهري والأوزاعي وأحمد وغيرهم أمرّوها كما جاءت بلا كيف، فالله لا يوصف بصفات الخلق، قال عز وجل (ولله المثل الأعلى) سورة النحل الآية 60، أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره، ورحم الله الطحاوي الذي قال (ومن وصف الله بمعنًى من معاني البشر فقد كفر).
ثناء العلماء عليه:
قَالَ أَحْمَدُ العِجْلِيُّ ابْنُ المُبَارَكِ ثِقَةٌ، ثَبْتٌ فِي الحَدِيْثِ، رَجُلٌ صَالِحٌ، يَقُوْلُ الشِّعْرَ، وَكَانَ جَامِعًا لِلْعِلْمِ.
قَالَ العَبَّاسُ بنُ مُصْعَبٍ جَمَعَ عَبْدُ اللهِ الحَدِيْثَ، وَالفِقْهَ، وَالعَرَبِيَّةَ، وَالشَّجَاعَةَ، وَالسَّخَاءَ، وَالتِّجَارَةَ، وَغير ذلك….
قَالَ الحَسَنُ بنُ عِيْسَى مَوْلَى ابْنِ المُبَارَكِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِثْلُ الفَضْلِ بنِ مُوْسَى، وَمَخْلَدِ بنِ الحُسَيْنِ، فَقَالُوا تَعَالَوْا نَعُدُّ خِصَالَ ابْنِ المُبَارَكِ مِنْ أَبْوَابِ الخَيْرِ، فَقَالُوا العِلْمُ، وَالفِقْهُ، وَالأَدَبُ، وَالنَّحْوُ، وَاللُّغَةُ، وَالزُّهْدُ، وَالفَصَاحَةُ، وَالشِّعْرُ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ، وَالعِبَادَةُ، وَالحَجُّ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالفُرُوْسِيَّةُ، وَالقُوَّةُ، وَتَرْكُ الكَلاَمِ فِيْمَا لاَ يَعْنِيْهِ، وَالإِنصَافُ، وَقِلَّةُ الخِلاَفِ عَلَى أَصْحَابِهِ.
قَالَ سُفْيَانُ إِنِّيْ لأَشتَهِي مِنْ عُمُرِي كُلِّهِ أَنْ أَكُوْنَ سَنَةً مِثْلَ ابْنِ المُبَارَكِ، فَمَا أَقْدِرُ أَنْ أَكُوْنَ وَلاَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي زَمَانِ ابْنِ المُبَارَكِ أَطْلَبَ لِلْعِلْمِ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ مَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَطْلَبَ لِلْعِلْمِ مِنِ ابْنِ المُبَارَكِ، وَهُوَ فِي المُحَدِّثِيْنَ مِثْلُ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ فِي النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ مَعِيْنٍ كَانَ عَبْدُ اللهِ رَحِمَهُ اللهُ كَيِّسًا، مُسْتَثْبِتًا، ثِقَةً، وَكَانَ عَالِمًا، صَحِيْحَ الحَدِيْثِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ الَّتِي يُحَدِّثُ بِهَا عِشْرِيْنَ أَلْفًا أَوْ وَاحِدًا وَعِشْرِيْنَ أَلْفًا.
قَالَ مَالِكٌ هَذَا ابْنُ المُبَارَكِ فَقِيْهُ خُرَاسَانَ.
من أقواله وأشعاره:
كان رحمه الله ينظم الشعر الذي فيه حكمة في الزهد والخشية من الله تعالى وترك المعاصي ونحو ذلك.
قَالَ رُبَّ عَمَلٍ صَغِيْرٍ تُكَثِّرُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَثِيْرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ.
وقال أيضًا جَرَّبتُ نَفْسِي فَمَا وَجَدْتُ لَهَا مِنْ بَعْدِ تَقْوَى الإِلَهِ كَالأَدَبِ فِي كُلِّ حَالاَتِهَا وَإِنْ كَرِهَتْ أَفْضَلَ مِنْ صَمْتِهَا عَنِ الكَذِبِ أَوْ غِيْبَةِ النَّاسِ إِنَّ غِيْبَتَهُم حَرَّمَهَا ذُو الجَلاَلِ فِي الكُتُبِ قُلْتُ لَهَا طَائِعًا وَأُكْرِهُهَا الحِلْمُ وَالعِلْمُ زَيْنُ ذِي الحَسَبِ إِنْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ كَلاَمُكِ يَا نَفْسُ، فَإِنَّ السُّكُوتَ مِنْ ذَهَبِ وَجَاءَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ أنه قال اغْتَنِمْ رَكْعَتَيْنِ زُلفَى إِلَى اللهِ إِذَا كُنْتَ فَارِغًا مُسْتَرِيْحَا وَإِذَا مَا هَمَمْتَ بِالنُّطْقِ بِالبَاطِلِ فَاجْعلْ مَكَانَهُ تَسْبِيْحَا فَاغْتِنَامُ السُّكُوتِ أَفْضَلُ مِنْ خَوْضٍ، وَإِنْ كُنْتَ بِالكَلاَمِ فَصِيْحَا.
وقال عبد الله بن المبارك في الحث على ترك المعاصي:
وكيف تحب أن تدعى حكيما *** وأنت لكل ما تهوى ركوب
وتضحك دائبا ظهرا لبطن *** وتذكر ما عملت ولا تتوب
وفاته:
مَاتَ ابْنُ المُبَارَكِ لعشر خلون من شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ دُفن بهيت وقبره ظاهر يُزار هناك وهيت بلدة على الفرات من نواحي بغداد، وَعَنْ نَوْفَلٍ، قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ المُبَارَكِ فِي النَّومِ، فَقُلْتُ مَا فَعَلَ اللهُ بِكَ؟ قَالَ غَفَرَ لِي بِرِحْلَتِي فِي الحَدِيْثِ، وقد زار بعض الفضلاء قبر ابن المبارك فقال:
مَرَرْتُ بِقَبْرِ ابْنِ المُبَارَكِ غَدْوَةً *** فَأَوْسَعَنِي وَعْظًا وَلَيْسَ بِنَاطِقِ
وَقَدْ كُنْتُ بِالعِلْمِ الَّذِي فِي جَوَانِحِي *** غَنِيًّا وَبِالشَّيْبِ الَّذِي فِي مَفَارِقِي
وَلَكِنْ أَرَى الذِّكْرَى تُنَبِّهُ عَاقِلاً ***إِذَا هِيَ جَاءتْ مِنْ رِجَالِ الحَقَائِقِ
رحم الله ابن المبارك وأعلى مقامه في عليين ونفعنا به وبعلمه.