أولياءُ اللهِ تعالَـى
29 ديسمبر 2020معنى قول بعض العلماءِ (لازمُ المذهبِ مذهبٌ) وقول بعضهم (لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا) وكيف يجمع بينهما وكيف خلط بعض الجهال بينهم (1)
1 يناير 2021حديث (إنَّ هذا الدّينَ بدأَ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأَ فطُوبـَى للغُـرَباءِ)
الحمدُ للهِ رب العالـمينَ لهُ النّعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثّناءُ الـحَسَنُ وصلواتُ اللهِ البَرِّ الرحيمِ والـملائكةِ الـمُقرَّبينَ على سيدِنا مـحمّدٍ أشرفِ الـمُرسَلينَ وعلى جـميعِ إخوانِهِ النَّبيِّينَ والـمُرسَلينَ وسلامُ اللهِ عليهم أجمَعين، أمّا بعدُ، ففي صحيحِ مسلمٍ أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ (إنَّ هذا الدّينَ بدأَ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأَ فطُوبـَى للغُـرَباءِ) (1) وعندَ الترمذيّ (ومَنِ الغُرباءُ)؟ قال (الذينَ يُصْلِحُونَ ما أَفسدَ النّاسُ مِنْ سُنَّتـي) (2).
معنى بدأ الإسلامُ غريبًا أنَّ الـمُسلمينَ كانُوا مُضْطَهَدِينَ في مكةَ بأنواعٍ منَ الأذى حتّـى إنَّـهُم مرةً أَكرَهُوا ثلاثةً من مشاهيرِ الصحابةِ على الكُفرِ فامتَنَعَ اثنانِ وقالَ الثالثُ ما أرادُوا منهُ ليُنقِذَ نفسَهُ فأنزلَ اللهُ تباركَ وتعالى قولَهُ في سورةِ النحلِ ﴿مَنْ كفرَ باللهِ مِنْ بعدِ إيـمانِهِ إلا مَنْ أُكرِهَ وقلبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإيـمانِ ولكن مَّنْ شرحَ بالكُفرِ صدْرًا فعلَيْهِمْ غضبٌ منَ اللهِ ولَـهُم عذابٌ عظيمٌ﴾، قال الرّسولُ صلى الله عليه وسلم لـهذا الذي أَعطى الكُفارَ ما أرادُوا منهُ من كلمةِ الكفرِ (كيفَ كانَ قلبُكَ حِينَ قُلتَ ما قُلتَ كانَ مُطْمَئِنًّا بالإيـمانِ)؟ فقال نعم.
هذه الآيةُ فيها تفصيلٌ في الـمُكرَهِينَ لأنَّ الـمُكرَهَ إنْ كانَ قلبُهُ عندَ النُّطقِ بالكُفرِ مُنشَرِحًا بالكُفرِ الذي يتَلَفَّظُ بهِ فهوَ كافرٌ عندَ اللهِ يستحقُّ عذابَ اللهِ الخالِدَ الأبديَّ وأمَّا إنْ كانَ عندَ نُطْقِهِ ليسَ شارِحًا صدرَهُ بلْ يكرَهُ الكُفرَ الذي ينطِقُ بهِ فهوَ ناجٍ عندَ اللهِ تباركَ وتعالى لا يُكتَبُ عليهِ وذلكَ لأنَّ الذي شرحَ صدْرَهُ عندَ الإكراهِ وقبلَ ذلكَ كانَ مُسلمًا إنَّـما شرحَ صدرَهُ للكفرِ عندَ التَّلَفُّظِ بهِ فهذا غيَّرَ اعتِقادَهُ لأنهُ قبلَ ذلكَ كانَ مُطمَئِنًّا بالإيمانِ وكارِهًا للكُفرِ، وأما الذي لـم يَزَلْ قلبُهُ مُطمئنًا بالإيمانِ لـم يتغيَّرْ عندَ النُّطقِ بتلكَ الكلمةِ فلـم يَشرَحْ صدرَهُ لِكلمةِ الكُفرِ فهُوَ ناجٍ فهوَ الذي استَثْناهُ اللهُ تعالى بقولهِ ﴿إلا مَنْ أُكْرِهَ وقلبُهُ مُطْمَئنٌّ بالإيـمانِ﴾ وأمَّا الآخرُ الذي تغيَّرَ اعتِقادُهُ فشرحَ صدرَهُ عندَ النطقِ بتلكَ الكلمةِ فهوَ الذي عَناهُ اللهُ بقولِهِ ﴿ولكِن مَّن شرحَ بالكُفرِ صدرًا فعليهِمْ غضَبٌ منَ الله﴾، هذهِ الآيةُ البَليغةُ بـهذا اللفظِ الـمُوجَزِ أعْطَتْ حُكمَ الاثنَينِ فما أعظَمَ بلاغةَ القُرءانِ، وبلاغَتُهُ هيَ ليسَتْ في طاقةِ البشرِ أن يأتُوا بـها، هذا معنى الآيةِ ﴿مَنْ كفرَ باللهِ مِن بعدِ إيـمانِهِ إلا مَنْ أُكرِهَ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيـمانِ ولكنْ مَن شرحَ بالكُفرِ صدرًا فعليهم غضبٌ منَ اللهِ ولـهُم عذابٌ عظيمٌ﴾ الآيةَ.
النيّةُ تُعتَبرُ في الـمُكرَهِ، الـمُكرَهُ هُوَ الذي لا يكفُرُ إذا نطَقَ بالكُفرِ إلا إذا غيَّرَ نيَّتَهُ فشَرَحَ صدرَهُ بالكُفرِ الذي يتلَفَّظُ بهِ وأمَّا غيرُ الـمُكرَهِ فلا يُشْتَرَطُ في ثُبُوتِ الكُفرِ عليهِ النّيّةُ وذلكَ بإجماعِ الأئمّةِ لذلكَ قَسَّمُوا الكُفرَ ثلاثةَ أقسامٍ قِسمٌ هوَ كُفرٌ لفظيٌّ ولو لـم يقتَرِنْ بهِ اعتقادٌ ونيَّةٌ وقسمٌ فِعلٌ إنِ اقترَنَ بهِ نيةٌ أو لـم تقتَرِنْ بهِ كإلقاءِ الـمُصحَفِ في القاذوراتِ فمَنْ فعلَ هذا كَفَرَ بفِعلِهِ ولو لـم يكُنْ معهُ اعتقادٌ، وقِسمٌ اعتقاديٌّ وهوَ كاعتِقادِ الشَّبَهِ بالـمَخلوقِ في اللهِ تعالى أو التردُّدِ أيِ الشكِّ في وجودِهِ تباركَ وتعالى، والشكُّ في كلامِ الفُقهاءِ ما ليسَ خاطِرًا لأنَّ الخاطرَ بالإجـماعِ غيرُ مُؤاخَذٍ بهِ بل الذي يَـخْطُرُ لهُ الكفرُ ثُـمَّ لا يعتَقِدُهُ بل لا يزالُ عقْدُ قلبِهِ جازِمًا بدينِ اللهِ تعالى فلهُ ثوابٌ لا يَضُرُّهُ هذا الخاطِرُ.
فالـحاصلُ في هذهِ الـمسئلةِ أنَّ الكفرَ القولـيَّ قدْ يكونُ مُستَقِلاً عنِ النيةِ والاعتقادِ وكذلكَ الكفرُ الفعليُّ قد يكونُ مُستقِلاً يَثبتُ بِـمُفردِهِ الكفرُ لو لـم يُضَفْ إليهِ نيةٌ وكذلكَ الاعتقاديُّ يَثْبُتُ الكفرُ بهِ من دونِ أن يقتَـرِنَ بهِ قولٌ ولا فعلٌ فمَنْ جهِلَ هذا وأَنكَرَ تَقسيمَ الكُفرِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ فهُوَ مِنْ أجهَلِ خلْقِ اللهِ بدينِ اللهِ وليسَ لهُ سَهْمٌ في الإسلامِ.
شخصٌ في هذا البلدِ أَنكَرَ تقسيمَ الكفرِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ فهذا في الـحقيقةِ كأنَّهُ فَضَحَ نفسَهُ بالـجَهلِ العَميقِ ونادى على نفسِهِ بقولِ أيُّها الناسُ اعلَمُوا أنّـِي جاهِلٌ بدينِ اللهِ، فلا يَغُرَّنَّكُم كونُ الرجلِ مِنْطِيقًا (3)، ليسَ الشأنُ بكثرةِ الكلامِ إنَّـما الشأنُ في مُوافقةِ الـحقِّ كما قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ليسَ البيانُ كثرةَ الكلامِ لكنَّ البيانَ إصابةُ الـحقِّ وليسَ العِيُّ قِلَّةَ الكلامِ إنّـما العِيُّ مَنْ سَفِهَ الحقَّ) (4) أي أخطأهُ وزَاغَ عنهُ فلا يَغُرَّنَّكُم كَونُ الرجلِ كثيرَ البيانِ لأنَّ البيانَ قِسمانِ بيانٌ على وجهِ الصوابِ الـمُوافقِ للدينِ، وبيانٌ تُستَمَالُ بهِ قلوبُ النّاسِ يُزَخرَفُ بهِ القولُ يُوهَمُ بهِ النّاسُ أنهُ حقٌّ وهوَ ليسَ بِـحقٍّ وهذا معنى قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم (إنَّ منَ البيانِ لَسِحرًا) (5).
نعودُ إلى شرحِ حديثِ إنَّ الإسلامَ بدأ غريبًا معنى غرابةِ الإسلامِ في أوَّلِهِ في أولِ بِعثةِ النبيِّ هوَ أنَّ المسلمينَ كانوا يُضْطَهَدونَ مِنْ قِبَلِ أعداءِ الكُفّارِ في أوّلِ بِعثةِ النبيِّ ثـمَّ لـم يزالوا مُضْطَهَدينَ حتـى هاجرَ رسولُ اللهِ بإذنٍ منَ اللهِ.
الرّسولُ صلى الله عليه وسلّم قد أُوذِيَ كثيرًا ضُرِبَ بأيدي الكُفارِ حتى إنهُ بعضَ الـمراتِ غُشِيَ عليهِ صلى الله عليه وسلم وأما أصحابُهُ فكانَ البلاءُ فيهم شديدًا جِدًّا، عمَّارُ بنُ ياسرٍ أمُّهُ قَتَلَهَا أبو جهلٍ لأنَّـها أسلَمَتْ بِحَربةٍ طعنَ بها قُبُلَها (6) كذلكَ ياسِرٌ والدُ عمّارٍ رضي الله عنهم نالَهُ أذًى كبيرٌ منَ الكُفارِ وقَتلوهُ، فالحاصلُ أنَّ الاضطهادَ كانَ يُصيبُ الـمسلمينَ في أولِ بِعثَةِ النبي صلى الله عليه وسلم وكانَ قسمٌ منهُ بالفعلِ وقسمٌ منهُ بالقولِ بالشّتمِ والإهانةِ ثـمَّ بعدَ الـهجرةِ قَوِيَ الـمسلمونَ فلـم يُتوَفَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلا وقد فَتَحَ الـجزيرةَ العربيّةَ معَ اتِّساعِ مَسافتها فالرّسولُ أخبرَ بأنَّهُ سيعودُ هذا الاضطهادُ بعدَ قوّةِ الإسلامِ وظُهُورِهِ فالآنَ في وقتِنا هذا تـحقَّقَتْ غُربةُ الإسلامِ أليسَ تَرَوْنَ أنَّ الـمُتكلّمَ بالـحقِّ الـمُوافِقِ لكتابِ اللهِ وسنةِ نبيِّهِ يُضطَّهدُ ويُشتَمُ ويُؤذَى ويُسَفَّهُ كالذي يُكفِّرُ مَنْ سبَّ اللهَ تعالى في حالِ غضبٍ أو حالِ مَزحٍ فإنَّ كثيرًا منَ الناسِ يُنكِرونَ عليهِ الـحقَّ أنَّ سبَّ اللهِ كفرٌ في حالِ الـجِدِّ والـمَزْحِ والغَضَبِ، وكذلكَ إنكارُهم لِتَـرْكِ مُصافحةِ الرَّجلِ الـمَرْأةَ الأجنبيّةَ معَ أنَّ الرّسولَ وأصحابَهُ ومَنْ تبِعَهُ بإحسانٍ لـم يُصافِحُوا النّساءَ الأجنبيّاتِ قطُّ ولـم يقُلْ أحدٌ بِـحِلِّهِ إنْ كانَ لِطلبِ التَّلَذُّذِ وإنْ كانَ لغيرِ ذلكَ، ولقدْ أوذِيَ أناسٌ لأنّهم ما وافَقوا على صَيامِ رمضان بقولِ الـمُنجِّمِ الفلكيّ، والإجـماعُ إجـماعُ علماءِ الإسلامِ قدِ انعقدَ أنَّ صيامَ رمضانَ لا يَثْبُتُ بقولِ الفلكيّ لأنَّ الرّسولَ صلى الله عليه وسلم وضعَ قانونًا سَـمَاويًّا فقالَ (صُوموا لِرُؤيَتِهِ وأَفطِروا لرُؤيَتِهِ فإنْ غُمَّ عليكُم فأكمِلُوا عدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ) (7)، بعضُ المُسْلِمِين وَقَفُوا عندَ هذا الحديثِ ولـم يُـوافِقُوا مَنْ أثبتَ رمضانَ بقولِ الفلكيِّ ثمَّ أُوذُوا على ذلكَ أذًى شديدًا حتَّـى مِنْ قِبَلِ بعضِ أصحابِ العَمَائمِ معَ أنَّ الذي دَرَسُوهُ في دراساتِـهِم هو أنَّ الصيامَ لا يَثْبُتُ بقولِ الفلكيِّ، وهُناكَ أمثلةٌ كثيرةٌ أخرى مِـمَّا يُضطَهَدُ بهِ الـمسلمونَ الـمُتَمَسِّكونَ بدينِ اللهِ.
وأما قولهُ عليه الصلاة والسلام (فطُوبى للغُرباءِ) فهُوَ عليهِ السلامُ قد فسَّرَهُ بقولهِ (الذينَ يُصلِحونَ ما أفسدَ الناسُ من سُنَّتي بعدي) فنحنُ بـحمْدِ اللهِ نُـحْيِ سنةَ رسولِ الله نأمرُ أنفُسَنا وغيرَنا بالتَّمَسُّكِ بِـمَا جاءَ بهِ النبـيُّ، ما أوجَبَهُ الرسولُ أوجَبْناهُ وما حرَّمَهُ الرسولُ على أمتِهِ حرَّمناهُ وما رغَّبَ فيهِ النبـيُّ أمَّتَهُ من غيرِ إيـجابٍ عليهم اعتَبَرناهُ كذلكَ وللهِ الحمدُ على ذلكَ واللهُ تعالى يُثَبِّتُنا على هذا الـمَنهَجِ ويَرزُقُنا الصَّبرَ على مَن يُعادينَا بالباطِلِ.
واللهُ تعالى أعلمُ.
1- رواه مسلم في باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين.
2- رواه الترمذي في باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعودُ غريبًا.
3- المِنطِيقُ هو البليغُ الكلام كما في تاج العروس.
4- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر وصف البيان في الكلام الذي هو محمود.
5- رواه ابن حبان في صحيحه باب الزجر عن تشقيق الكلام في الألفاظ إذا قصد به غير الدين.
6- ذكره الفاكهي في أخبار مكة.
7- رواه البخاري في صحيحه.