إِنَّ مِمَّا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ التَّبْلِيغَ فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي هَذِهِ الآيَةِ دَعَا قَوْمَهُ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ يَزِيدُ الشَّيْطَانُ عَلَى مَا قَالُوهُ مَا لَمْ يَقُولُوهُ لِيُوهِمُوا غَيْرَهُمْ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ قَالُوا ذَلِكَ الْكَلامَ الْفَاسِدَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ فَقَدْ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ (يَكْفُرُ مَنْ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَجْرَى كَلامًا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ هُوَ مَدْحُ الأَوْثَانِ الثَّلاثَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَكِّنَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ مِنْ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَدْحَ الأَوْثَانِ، وَإِيضَاحُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَقْرَأُ ذَاتَ يَوْمٍ سُورَةَ النَّجْمِ فَلَمَّا بَلَغَ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ انْتَهَزَ الشَّيْطَانُ وَقْفَةَ رَسُولِ اللَّهِ وَسَكْتَتَهُ فَأَسْمَعَ الشَّيْطَانُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِقُرْبِ النَّبِيِّ مُوهِمًا لَهُمْ أَنَّهُ صَوْتُ النَّبِيِّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ (تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى) فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ ءَالِهَتَنَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِخَيْرٍ فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْءَانِ فَحَزِنَ الرَّسُولُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ تَسْلِيَةً لَهُ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ﴾).
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ الْمَذْكُورَةَ ءَانِفًا لِتَكْذِيبِهِمْ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ أَيْ يَكْشِفُ اللَّهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَتَّبِعُ مَا يَقُولُهُ الشَّيْطَانُ وَمَنْ لا يَتَّبِعُ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْعَدُ هَذَا).
وَلَيْسَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ النَّبِيُّ يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ وَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) أَنَّ مَنْ سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُمْ مَنْ سِوَى قَوْمِهِ إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الأَنْبِيَاءَ غَيْرَ نَبِيِّنَا أُرْسِلُوا إِلَى أَقْوَامِهِمْ أَيْ أَنَّ النَّصَّ لَهُمْ كَانَ أَنْ يُبَلِّغُوا قَوْمَهُمْ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لا يُبَلِّغُونَ سِوَى قَوْمِهِمْ لِأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ أَوْكَدُ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ فُصَحَاءُ فَلَيْسَ فِيهِمْ أَرَتُّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ وَحَبْسَةٌ وَيُعَجِّلُ فِي كَلامِهِ فَلا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ، وَلا تَأْتَاءُ وَلا أَلْثَغُ، وَأَمَّا الأَلْثَغُ فَهُوَ الَّذِي يُصَيِّرُ الرَّاءَ غَيْنًا أَوْ لامًا وَالسِّينَ ثَاءً وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ لَارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُونَهُ وَلَقَالَ قَائِلٌ لَمَّا يَبْلُغُهُ كَلامٌ عَنِ النَّبِيِّ (مَا يُدْرِينَا أَنَّهُ يَكُونُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ)، فَلا يَحْصُلُ مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ كَلامٌ غَيْرُ الَّذِي أَرَادَ قَوْلَهُ، أَوْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ كَلامٌ مَا أَرَادَ قَوْلَهُ بِالْمَرَّةِ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ الْجَائِزُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ كَالسَّلامِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا حَصَلَ مَعَ الرَّسُولِ مِمَّا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ أَقُصِرَتِ الصَّلاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نُسِّيتَ، قَالَ (كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ)، ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ) (وَهُوَ السَّائِلُ) فَقَالُوا نَعَمْ، فَقَامَ فَأَتَى بِالرَّكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ أَيْضًا الْجُنُونُ، وَأَمَّا الإِغْمَاءُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ كَانَ يُغْمَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيُفِيقُ.
وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي عُقُولِهِمْ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرَّسُولَ أَثَّرَ السِّحْرُ فِي عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ، وَأَمَّا تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى جَسَدِ النَّبِيِّ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ جَائِزٌ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ يَهُودِيًّا عَمِلَ السِّحْرَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَتَأَلَّمَ الرَّسُولُ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْجُبْنُ أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ، الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ فَإِنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ تَقْتَضِي الْهَرَبَ مِنَ الْحَيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ التَّخَوُّفِ مِنْ تَكَالُبِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لا يُقَالُ عَنِ النَّبِيِّ هَرَبَ لِأَنَّ هَرَبَ يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ أَمَّا إِذَا قِيلَ هَاجَرَ فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ فَلا يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ مَا فِيهِ نَقْصٌ.