سُورَةُ الْغَاشِيَةِ مَكِّيَّةٌ إِجْمَاعًا وَهِىَ سِتٌّ وَعِشْرُونَ ءَايَةً
19 أغسطس 2021سُورَةُ الْبَلَدِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ وَهِىَ عِشْرُونَ ءَايَةً
25 أغسطس 2021سُورَةُ الْفَجْرِ مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِىَ ثَلاثُونَ ءَايَةً
سُورَةُ الْفَجْرِ مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِىَ ثَلاثُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِى فِى عِبَادِى (29) وَادْخُلِى جَنَّتِى (30)
﴿وَالْفَجْرِ﴾ قَالَ الْمَاوَرْدِىُّ هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ انْفِجَارُ الصُّبْحِ مِنْ أُفُقِ الْمَشْرِقِ وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِالصُّبْحِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس﴾ (سُورَةَ التَّكْوِير 18) وَيُرَادُ بِالْفَجْرِ هُنَا الْجِنْسُ أَىْ فَجْرِ كُلِّ يَوْمٍ.
﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ وَهذَا قَسَمٌ ثَانٍ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْلَيَالِ الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ فِى الْغَالِبِ فِيهَا اللَّيْلَةَ الَّتِى هِىَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أَعْنِى لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ عَشْرِ الأَضْحَى وَهِىَ الْعَشْرُ الأُوَلُ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِى صَّحِيحَىْ أَبِى عُوَانَةَ وَابْنِ حِبَّانَ (مَا مِنْ أَيَامٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَامِ عَشْرِ ذِى الْحِجَّةِ).
﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ رَوَى الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ (هِىَ الصَّلاةُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ) وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِىُّ وَخَلَفٌ وَالْوِتْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ إِذَا سَارَ أَىْ مُقْبِلًا ومُدْبِرًا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَيْلَةً مَخْصُوصَةً بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِى كُلِّ لَيْلَةٍ.
﴿هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ﴾ أَىْ لِذِى حِجًى يَعْنِى الْعَقْلَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُهُ ﴿هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ﴾ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِيهِ عَجَائِبُ وَدَلائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ لِدِلالَتِهِ عَلَى خَالِقِهِ.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ أَىْ أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ وَالْمُرَادُ أَوْلادُ عَادٍ وَهُمْ عَادٌ الأُولَى أَشَارَ اللَّهُ إِلَى مَصَارعِهِمْ وَالْمَقْصُودُ تَوَعُّدُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَنَصْبُ الْمَثَلِ لَهاَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ يَعْمَر بِعَادِ إِرَمَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الإِضَافَةِ.
﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ قَالَ الْبُخَارِىُّ (قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ يَعْنِى الْقَدِيمَةَ وَالْعِمَادُ أَهْلُ عَمُودٍ لا يُقِيمُونَ) أَىْ كَانُوا أَهْلَ خِيَامٍ قَالَهُ قَتَادَةُ وَيَعْنِى بِالْقَدِيمَةِ عَادًا الأُولَى، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ (وَأَصَّحُ هَذِهِ الأَقْوَالِ الأَوَّلُ أَنَّ إِرَمَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ وَهُمْ إِرَمُ بنُ سَامِ بنِ نُوحٍ وَعَادٌ هُمْ بَنُو عَادِ بنِ عَوْصِ بنِ إِرَمَ وَمُيِّزَتْ عَادٌ بِالإِضَافَةِ لإِرَمَ عَنْ عَادٍ الأَخِيرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِى تَفْسِيرِ الأَحْقَافِ أَنَّ عَادًا قَبِيلَتَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى﴾ (سُورَةَ النَّجْم 50)).
﴿الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلادِ﴾ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِى الطُّولِ وَالْقُوَّةِ، وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو عِمْرَانَ لَمْ تَخْلُقْ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ اللَّامِ وَمِثْلَهَا بِنَصْبِ اللَّامِ.
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ ثَمُودُ هُمْ قَوْمُ نَّبِىِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ سُمُّو بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ بنِ عَابِرِ بنِ إِرَمَ بنِ سَامِ بنِ نُوحٍ وَمَعْنَى ﴿جَابُوا الصَّخْرَ﴾ خَرَقُوهُ وَنَحَتُوهُ فَاتَّخَذُوا فِى الصَّخْرِ الْبُيُوتَ وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ (سُورَةَ الأَعْرَاف) وَكَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاقَةِ الَّتِى شَرَّفَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهَا ءَايَةً مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ (سُورَةَ الشُّعَرَاء 155) قَالَ الْقُرْطُبِىُّ (فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتْ مَاءَهُمْ كُلَّهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَتَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ ءَاخِرَ النَّهَارِ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ كَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَرْضِهِمْ، لَيْسَ لَهُمْ فِى يَوْمِ وُرُودِهَا أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ شِرْبِهَا شَيْئًا وَلا لَهَا أَنْ تَشْرَبَ فِى يَوْمِهِمْ مِنْ مَائِهِمْ شَيْئًا) وَالْمُرَادُ بِالْوَادِ هُنَا وَادِي الْقُرَى وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَكَانَتْ قَدِيمًا مَنَازِلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَبِهَا أَهْلَكُهُمُ اللَّهُ.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ﴾ كَانَ فِرْعَوْنُ يَتِدُ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ يَشُدُّ إِلَيْهَا يَدَىْ وَرِجْلَىْ مَنْ يُعَذِّبُهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَدَ فِرْعَوْنُ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا ءَاسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ وَفِي الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ءَاسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ).
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلادِ﴾ يَعْنِى عَادًا وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ طَغَوْا أَىْ تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا وَكَفَرُوا بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَتَجَبَّرُوا عَلَيْهِمْ.
﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ أَىْ أَكْثَرُوا فِيهَا مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَالأَذَى مِنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صُروفِ الْعُدْوَانِ.
﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِيقَاعِ الْعَذَابِ بِهِمْ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ إِذِ الصَّبُ يُشْعِرُ بِالدَّوَامِ وَالسَّوْطُ بِزِيَادَةِ الإِيلامِ أَىْ أَنَّهُمْ عُذِّبُوا عَذَابًا مُؤْلِمًا دَائِمًا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ السَّوْطَ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ غَايَةُ الْعَذَابِ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ قَالَ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ فِى كِتَابِ التَّفْسِيرِ (﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وَقَالَ الْحَافِظُ فِى الْفَتْحِ (الْمِرْصَادُ مِفْعَالٌ مِنَ الْمَرْصَدِ وَهُوَ مَكَانُ الرَّصَدِ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَاضِحٌ فَلا حَاجَةَ لِلتَّكَلُّفِ) إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمِرْصَادِ أَعْمَالِ بَنِى ءَادَمَ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَلا يَفُوتُهُ تَعَالَى مِنْهَا شَىْءٌ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفِى الآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَانِعِى التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا هِىَ قَاعِدَتُهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَحْصُورًا وَهُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ وَالآيَةُ مُتَأَوَّلَةٌ بِالإِجْمَاعِ وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ وَغَيْرُهُ.
وَلا يَمْنَعُ مِنَ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا إِلَّا الْمُجَسِّمَةُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَيَكْفِى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِى الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ، فَهَذَا يُظْهِرُ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ زُورٍ لِيُرَوِّجُوا كُفْرَهُمْ وَضَلالَهُمْ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْهُمْ بَرىءٌ وَقَدْ أَلَّفَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِىُّ الْمَشْهُورُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ كِتَابَ دَفْعِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ لِدَفْعِ شَرِّ هَذِهِ الْفِئَةِ الَّتِى انْتَشَرَ ضَرَرُهَا.
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ)، وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ السَّلَفِىُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 321 هـ فِى عَقِيدَتِهِ الَّتِى ذَكَرَ أَنَّهَا عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (تَعَالَى يَعْنِى اللَّه عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) مَعْنَاهُ اللَّهُ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا إِذِ الْحَجْمُ هُوَ الَّذِى يَحْتَاجُ لِلْمَكَانِ واللَّهُ لا يُوصَفُ بِالْجِهَاتِ وَلا يُوصَفُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، وَلا شَكَّ أَنَّ الإِجْمَاعَ قَائِمٌ عَلَى تَنَزُّهِ اللَّهِ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ فِى كِتَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَاصِفًا نَفْسَهُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (سُورَةَ الشُّورَى 11) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ الْمَكَانُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ قَبْلَهُ مَوْجُودًا فَكَمَا صَحَّ فِى الْعَقْلِ وُجُودُ اللَّهِ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ صَحَّ وُجُودُهُ تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ وَهَذَا لا يُعَدُّ نَفْيًا لِوُجُودِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُ الْمُشَبِّهَةُ واللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ قَالَ (يَكْفُرُ بِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ) وَهُوَ حَقٌّ لا مِرْيَةَ فِيهِ ولا شَكَّ لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا لَهُ مَكَانٌ فَقَدْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَلا يَكُونُ الْمُشْرِكُ الْعَابِدُ غَيْرَ اللَّهِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ.
﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ﴾ يَعْنِى الْكَافِرَ ﴿إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ أَىِ امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ أَىْ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَبِمَا وَسَّعَ عَلَيْهِ مِنَ الإِحْسَانِ وَالإِفْضَالِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ﴾ أَىْ فَضَّلَنِى بِمَا أَعْطَانِى مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ فَيَظُنُ الْكَافِرُ لِشِدَّةِ غُرُورِهِ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِكَرَامَتِهِ عَلَى اللَّهِ وَلَمْ يَدْرِ الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَناَحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾ أَىْ إِذَا مَا ابْتَلَى اللَّهُ الْكَافِرَ ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ أَىْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ وَالتَّقْتِيرِ عَلَيْهِ فِى الرِّزْقِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِىُّ وَابْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِىُّ ﴿فَقَدَّرَ﴾ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ ضَيَّقَ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ﴾ أَىْ يَقُولُ الْكَافِرُ اللَّهُ أَذَلَّنِى بِالْفَقْرِ، فَالْكَرَامَةُ عِنْدَ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ زِيَادَةُ الدُّنْيَا وَالْهَوَانُ قِلَّتُهَا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُصُورِ نَظَرِهِ وَسُوءِ فِكْرِهِ فَإِنَّ التَّقْتِيرَ قَدْ يُؤَدِّى إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ فَقَدْ بَلَغَ الْفَقْرُ بِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَشَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ فِى عَصْرِهِ أَبِى إِسْحَاقَ الشِّيرَازِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَبْلَغَهُ حَتَّى كَانَ لا يَجِدُ قُوتًا وَلا مَلْبَسًا وَكَانَ يَقُومُ لِمَنْ يَزُورُهُ نِصْفَ قَوْمَةٍ لَيْسَ يَعْتَدِلُ قَائِمًا لِئَلَّا يَظْهَرَ مِنْهُ شَىْءٌ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ *** فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
وَقَدْ تُفْضِى التَّوْسِعَةُ إِلَى قَصْدِ الأَعْدَاءِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِمْ وَالِانْهِمَاكِ فِى حُبِّ الدُّنْيَا وَالْمَلَذَّاتِ وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الآخِرَةِ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ، وَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) الْمَعْنَى يَبْتَلِيهِ.
﴿كَلَّا بَلْ لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ وَالْمَعْنَى لَيْسَ الإِكْرَامُ بِالْغِنَى وَلا الإِهَانَةُ بِالْفَقْرِ بَلِ الإِكْرَامُ فِى التَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ وَالإِهَانَةُ فِى الْخِذْلانِ وَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ أَىْ لا يُحْسِنُونَ إِلَيْهِ مَعَ غِنَاهُمْ وَقِيلَ الْمُرَادُ لا يُعْطُونَ الْيَتِيمَ حَقَّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْيَتِيمُ هُوَ الصَّغِيرُ الَّذِى مَاتَ أَبُوهُ وَإِنْ مَاتَ الأَبَوَانِ فَهُوَ لَطِيمٌ وَإِنْ مَاتَتِ الأُمُ فَقَطْ فَهُوَ عَجِىٌّ قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ.
﴿وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ أَىْ لا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ.
﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا﴾ قَالَ اللَّيْثُ بنُ نَصْرٍ الْخُرَاسَانِىُّ تِلْمِيذُ الْخَلِيلِ بنِ أَحْمَدَ اللَّمُّ الْجَمْعُ الشَّدِيدُ، وَالتُّرَاثُ الْمِيرَاثُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ لا يُورِثُونَ النِّسَاءَ وَلا الصِّبْيَانَ بَلْ يَأْكُلُونَ مِيرَاثَهُمْ مَعَ مِيرَاثِهِمْ.
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ أَىْ كَثِيرًا حَلالُهُ وَحَرَامُهُ مَعَ الْحِرصِ وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ، وَالبُخْلُ وَالبَخْلُ وَالبَخَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمَّا الْحِرصُ فَهُوَ شِدَّةُ تَعَلُقِ النَّفْسِ لِاحْتِوَاءِ الْمَالِ وَجَمْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْمُومِ كَالتَّوَصُلِ بِهِ إِلَى التَّرَفُعِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّفَاخُرِ وَعَدَمِ بَذْلِهِ إِلَّا فِى هَوَى النَّفْسِ، وَالشُّحُ يُرَادِفُ الْبُخْلَ إِلَّا أَنَّهُ يُخَصُّ بِالْبُخْلِ الشَّدِيدِ، قَالَ فِى الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ (وَالْبُخْلُ فِى الشَّرْعِ مَنْعُ الْوَاجِبِ) وَذَلِكَ كَالْبُخْلِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ وَسَدِّ ضَرُورَةِ أَهْلِ الضَّرُورَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ يَتَضَّمَنُ مَعْنَى الإِنْكَارِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَتَوَعُّدِهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ أَىْ زُلْزِلَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَانْهَدَمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَانْعَدَمَ.
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِى الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فِى حَوَادِثِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ مَا نَصُّهُ (وَرَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِى عَمْرِو بنِ السَّمَّاكِ عَنْ حَنْبلٍ أَنَّ أَحْمَدَ ابْنَ حَنْبَلٍ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ) ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِىُّ وَهَذَا إِسْنَادٌ لا غُبَارَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَلا يَخْفَى أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ مِنْ أَجَلِّ السَّلَفِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أَىْ أَمْرُهُ وَقَضَاؤُهُ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبِصْرِىُّ التَّابِعِىُّ وَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِىُّ مَا نَصُّهُ (وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لا يُوصَفُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَأَنَّى لَهُ التَّحَوُّلُ وَالِانْتِقَالُ وَلا مَكَانَ لَهُ وَلا أَوَانَ وَلا يَجْرِى عَلَيْهِ وَقْتٌ وَلا زَمَانٌ) انْتَهَى كَلامُهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ الْحَنْبَلِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ زَادُ الْمَسِيرِ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ (سُورَةَ الْبَقَرَة 210) إِنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ، قَالَ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ (سُورَةَ النَّحْل 33)، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ الْجَوْزِىِّ الْحَنْبَلِىُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَجِىءَ إِنَّمَا هُوَ بِالذَّاتِ وَقَالُوا يَجِىءُ بِذَاتِهِ وَيَنْزِلُ بِذَاتِهِ وَبَيَّنَ بَرَاءَةَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ فِى كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ دَفْعُ شُبَهِ التَّشْبِيهِ.
وَالْخُلاصَةُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالنُّقْلَةُ وَإِنَّمَا نَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهِ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ وَتَرْكِ التَّشْبِيهِ وَالأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ الإِمَامُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ قَالَ (وَاللَّهُ تَعَالَى لا مَكَانَ لَهُ) ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ (إِنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَالِاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ (سُورَةَ النَّحْل 26) وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِتْيَانًا مِنْ حَيْثُ النُّقْلَةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ إِحْدَاثَ الْفِعْلِ الَّذِى بِهِ خَرِبَ بُنْيَانُهُمُ) وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
وَالْخُلاصَةُ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنِ السَّلَفِ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِى يَدَّعُونَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِ زُورًا وَبُهْتَانًا وَقَدْ ثَبَتَ التَّأْوِيلُ كَذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ (سُورَةَ الذَّارِيَات 47) قَالَ بِقُوَّةٍ، وَقَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ (سُورَةَ الْقَلَم 42) قَالَ عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَلَوْ أَرَدْنَا الِاسْتِقْصَاءَ لَطَالَ الْبَحْثُ وَلَمْ نَزِدْ فِى الْبَيَانِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةِ الرَّدِ عَلَى أَتْبَاعِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِىِّ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّ مَنْ لَمْ يُجْرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَهُوَ ضَالٌّ فَكَفَّرُوا أَهْلَ الإِسْلامِ وَضَلَّلُوهُمْ وَهُمْ أَوْلَى بِمَا وَصَفُوا بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَيْثُ شَمَلَ تَضْلِيلُهُمْ وَتَكْفِيرُهُمُ الصَّحَابَةَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ الَّذِينَ ثَبَتَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ كَالإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنَ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ أَىْ يَنْزِلُ مَلائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالإِنْسِ وَالْجِنِ.
﴿وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ يُفَسِّرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (يُؤْتَى بَجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا) وَلَيْسَ كُلُّ النَّارِ يَأْتِى بَلْ جُزْءٌ مِنْهَا يُقَرِّبُهَا الْمَلائِكَةُ لِلنَّاسِ فَيَرَاهَا الْعِبَادُ فَالأَتْقِيَاءُ لا يَفْزَعُونَ أَمَّا الْكُفَّارُ فَيَكَادُونَ يَمُوتُونَ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لَكِنْ هُنَاكَ لا مَوْت.
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ﴾ أَىْ أَنَّهُ يَوْمَ يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ يَتَذَكَّرُ الْكَافِرُ مَعَاصِيَهُ وَمَا فَرَّطَ فِيهِ.
﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْىِ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَذَكُّرَهُ ذَلِكَ لا يَنْفَعُهُ.
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى﴾ أَىْ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِى الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ لِحَيَاتِى الْبَاقِيَةِ.
﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ أَىْ لا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِىُّ وَيَعْقُوبُ لا يُعَذَّبُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا.
﴿وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يُوثِقُ الْكُفَّارَ بِالسَّلاسِلِ وَالأَغْلالِ لا كَوَثَاقِ أَحَدٍ أَحَدًا.
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ قَالَ الْبُخَارِىُّ ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ وَقِيلَ ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ أَىِ الآمِنَةُ وَهِىَ الْمُؤْمِنَةُ الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ.
﴿ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ أَىْ إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ أَىْ رَاضِيَةً بِالثَّوَابِ مَّرْضِيَّةً عِنْدَ اللَّهِ.
﴿فَادْخُلِى فِى عِبَادِى﴾ أَىِ ادْخُلِى فِى جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِى.
﴿وَادْخُلِى جَنَّتِى﴾ أَىْ مَعَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ.
حِكَايَةٌ عَجِيبَةٌ رَوَى الطَّبَرَانِىُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَشَهِدْتُ جِنَازَتَهُ فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَدَخَلَ فِى نَعْشِهِ فَنَظَرْنَا وَتَأَمَّلْنَاهُ هَلْ يَخْرُجُ فَلَمْ يُرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَعْشِهِ فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لا يُدْرَى مَنْ تَلاهَا ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى﴾، قَالَ الذَّهَبِىُّ فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عِلْمُهُ أَىِ الطَّائِرَ الأَبْيَضَ.