قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظَةُ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا) تُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْوَعْدِ بِالْخَيْرَاتِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الْوَعْدِ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ إِثْبَاتًا لِلتَّأْكِيدِ وَإِزَالَةً لِوَهْمِ التَّخْصِيصِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُغَايِرٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؟
وَالْجَوَابُ نَعَمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ وَشَرْطُ الشَّىْءِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الشَّىْءِ (1).
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ لِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ رِزْقَهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى مُحْسِنٌ كَرِيمٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ كَانَ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَصْلَحَتَهُ فِي ذَلِكَ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَلَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَكَانَ أَبَدًا فِي الْحُزْنِ وَالشَّقَاءِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَبَدًا يَسْتَحْضِرُ فِي عَقْلِهِ أَنْوَاعَ الْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهَا يَرْضَى بِهَا لِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ، فَعِنْدَ وُقُوعِهَا لَا يَسْتَعْظِمُهَا بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ تِلْكَ الْمَعَارِفِ، فَعِنْدَ وُقُوعِ الْمَصَائِبِ يَعْظُمُ تَأْثِيرُهَا فِي قَلْبِهِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ مُنْشَرِحٌ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ لَمْ يَتَّسِعْ لِلْأَحْزَانِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، أَمَّا قَلْبُ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ خَالٍ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ مَمْلُوءًا مِنَ الْأَحْزَانِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَاجِبَةُ التَّغَيُّرِ سَرِيعَةُ التَّقَلُّبِ فَلَوْلَا تَغَيُّرُهَا وَانْقِلَابُهَا لَمْ تَصِلْ مِنْ غَيْرِهِ إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبَ التَّغَيُّرِ فَإِنَّهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ وَلَا تَتَبَدَّلُ مَاهِيَّتُهُ، فَعِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ يَكُونُ أَيْضًا وَاجِبَ التَّغَيُّرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَطْبَعُ الْعَاقِلُ قَلْبَهُ عَلَيْهِ وَلَا يُقِيمُ لَهُ فِي قَلْبِهِ وَزْنًا، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ، فَيَطْبَعُ قَلْبَهُ عَلَيْهَا وَيُعَانِقُهَا مُعَانَقَةَ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ، فَعِنْدَ فَوْتِهِ وَزَوَالِهِ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا.
(1) لا يُقبل عمل كافر ولو كان فيه صلاح وإحسان للمسلمين.