قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (سُورَةَ الأَنْفَال 55)، الدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَبَهَائِمَ وَحَشَرَاتٍ، هَذَا مَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى إِطْلاقِهَا عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْبَهَائِمِ وَلا يَصِحُّ فِي الْقُرْءَانِ هَذَا التَّفْسِيرُ، فَالإِنْسَانُ يُقَالُ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ دَابَّةٌ لِأَنَّهُ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْكَافِرَ هُوَ أَحْقَرُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (لا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِمِنْخَرَيْهِ خَيْرٌ مِنْ ءَابَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِسْمَانِ قِسْمٌ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الأَنْبِيَاءِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقِسْمٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَكُلٌّ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْمَلُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ يَشْمَلُهُ وَإِنْ كَانُوا بِالنِّسْبَةِ لِعَذَابِ الآخِرَةِ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ فَالَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ لا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِالنَّارِ أَمَّا الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ فَلَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ أَخَسُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ.
وَمَعْنَى (مَا يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِمِنْخَرَيْهِ) أَيِ الْقَذَرُ لِيَتَقَوَّتَ بِهِ، وَالْجُعَلُ هُوَ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ سَوْدَاءُ تَسُوقُ الْقَذَرَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَنِي ءَادَمَ تَجْعَلُهُ حُبَيْبَاتٍ تَسُوقُهُ لِتَتَقَوَّتَ بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يَسُوقُهُ الْجُعَلُ الرَّسُولُ قَالَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَانَ النَّاسُ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْتَخِرُونَ بِهِمْ يَقُولُونَ هَذَا جَدِّي كَانَ كَذَا، أَبِي كَانَ كَذَا، فَالْمَعْنَى كُفُّوا عَنِ الِافْتِخَارِ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ مَا يَسُوقُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ شُكْرَ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ لا يَصِحُّ مَعَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ تَكْذِيبِ رَسُولِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ لِيَتْبَعَهُ النَّاسُ، وَلَوْ أَنْفَقَ هَذَا الْكَافِرُ مِثْلَ جَبَلٍ ذَهَبًا لِلْمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ لا يَكُونُ شَاكِرًا لِخَالِقِهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْوُجُودِ وَالْعَقْلِ فَلا يَكُونُ الْكَافِرُ شَاكِرًا لِلَّهِ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الْخَدَمَاتِ لِلنَّاسِ وَمَهْمَا كَانَ عِنْدَهُ عَطْفٌ وَرَحْمَةٌ وَحَنَانٌ عَلَى الْمَنْكُوبيِنَ وَالْمَلْهُوفِينَ.
الْكُفَّارُ هُمْ أَحْقَرُ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُمْ صُورَةَ الْبَشَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فَكَفَرُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.