ءاداب السفر
22 نوفمبر 2022الْفَرْقُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ
25 نوفمبر 2022التَّوسُّل والاستغاثة لفضيلة الأستاذ الكبير حجة الإسلام الشيخ يوسف الدجوي (3)
التَّوسُّل والاستغاثة لفضيلة الأستاذ الكبير حجة الإسلام الشيخ يوسف الدجوي (1287 هـ – 1365 هـ) (3)
ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثة ونحوها فإنّ المستغيث إن كان طالبًا من الله بكرامة هذا الميّت لديه، فالأمر واضح، وإن كان طالبًا من الولي نفسه فإنّما يطلب منه على اعتقاد أنّ الله أعطاه قوّة روحانيّة تشبه قوّة الملائكة فهو يفعل بها بإذن الله، فهل في ذلك تأليه له؟ ولو فرضنا جدلاً أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن فيه شرك ولا كفر، بل نكون كمن طلب من المقعد المعونة معتقدًا أنّه صحيح غير مقعد، مع أنّ عمل الأرواح ومواهب الأنبياء والأولياء ثابتة في الدّلائل القطعيّة، على الرّغم من أنوفهم.
وصفوة القول أنّنا نقول هؤلاء المستغيثون يعتقدون أنّ الله أعطى هؤلاء الأولياء مواهب لم يعطها لغيرهم، وذلك جائز لا يمكنهم منعه، وهم يقولون إنّهم اعتقدوا فيهم الألوهيّة! مع أنّ ذلك لا يقول به أحد، إلاَّ عند من أساء الظّن بالمسلمين ظلمًا وعنادًا، ولو فرضنا أنّ ذلك مشكوك فيه، فهل يجوز التّكفير والقتل بمجرّد الشّك؟!
فالاستغاثة مبنيّة عندنا على أنّ الأنبياء والأولياء أحياءٌ في قبورهم كالشّهداءِ، بل أعلى من الشّهداء، ويمكنهم أن يدعو الله تعالى للمستغيث بهم، بل يمكنهم أن يعاونوه بأنفسهم كما تعاون الملائكة بني آدم، وللأرواح تصرّف كبير في البرزخ وعلى ذلك دلائل كثيرة أطنب فيها ابن القيّم، وهو من أئمّة هؤلاء، وأثبت ابن تيميّة سماع الأموات وردّهم السّلام في فتاويه وغيرها، مستندًا إلى الأحاديث الصّحيحة في ذلك، وذكر سماع سعيد بن المسيب الأذان من قبره صلى الله عليه وسلم أيّام الحرّة في كتبه، فإذا استغاث بهم كان كمن يستغيث بالحي سواء بسواءٍ لأنّهم عندنا أحياءٌ، بل أعظم نفوذًا، وأوسع تصرّفًا من الأحياءِ.
ولو تنزّلنا غاية التنزّل، وفرضنا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن هناك وجه للتّكفير، وإنّما يقال للمستغيثين إنّكم أخطأْتم في ذلك، فإنّهم ليسوا أحياء ولا قادرين على ما سبق لنا.
فإذًا يكون الخلاف بيننا وبينهم مبنيًّا على أنّ الأمواتَ يسمعون ويعقلون ويدعون، أم هم كالجماد لا يستطيعون شيئًا من ذلك، فنحن نقول بالأوّل، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسّنّة، والأخبار المتواترة عن كرامات الأولياء، ومرائي الصّالحين، وبركات النّبي صلى الله عليه وسلم الّتي حصلت للمستغيثين به، والاستشفاع به عند زيارته صلى الله عليه وسلم، وقد نصّت على ذلك كتب المذاهب الأربعة، حتّى الحنابلة عند ذكر آداب الزّيارة له صلى الله عليه وسلم.
وهم يقولون بالثّاني، وأنّ الأموات قد دخلوا في عالم العدم، كما يقول المادّيّون، وعندما تحرجهم بالبراهين القاطعة يقولون إنّهم أحياءٌ، ولكنّهم مشغولون بالعذاب أو النّعيم! وهذا كلام خيالي، ولا نقول خطابي، فإنّه أقل من ذلك، وأكبر ظنّي أنّهم يقولونه بألسنتهم وليس في قلوبهم، وليس هذا محل شرح ذلك، فإنّ المتنعّم حر مختار، ولا ينافي نعيمه أنّه يدعو الله لأحد المسلمين، بل قد يرى من نعيمه أن يساعد ابنه أو محبّه بما يقدر عليه.
والدّلائل على ذلك متواترة مستفيضة، خصوصًا المرائي في ذلك، كحديث بلال بن الحارث الصّحابي رضي الله عنه المذكور عند البيهقي وابن أبي شيبة، وفيه أنّه جاء قبره صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله استسق لأمّتك، أي ادع الله لهم، فجاءَه في المنام وقال (بَشِّرْ عُمرَ أَنَّهُم سَيُسْقَون)، وقل له (عَلَيْكَ الكَيسَ الكَيسَ)، ورؤيته صلى الله عليه وسلم جعفرًا ذا الجناحين يطير مع الملائكة يبشّرون أهل بيته المطر، وهو في المستدرك وغيره بألفاظ مختلفة، كرؤية أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم وإخباره إيّاها بقتل الحسين، وهو في المسند وغيره.
ويكفي في ذلك محاجّة آدم لموسى عليه السّلام، وما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الحوادث الكثيرة، خصوصًا مراجعة موسى في أمر الصّلاة، وكفالة إبراهيم لأطفال المؤمنين وانظر كيف رأى موسى يصلّي في قبره، ثم رآه في السّماء السّادسة وببيت المقدس مع الأنبياء، وأي استبعاد في ذلك؟! وقد قلنا إنّ لهم حالة ملكيّة لا تقاس على أحوالنا، وإنّك لتعرف أنّ عزرائيل عليه السّلام لا يشغله قبض عن قبض، والقبض لا يشغله عن العبادة طرفة عين، على أن حال البرزخ بخلاف حال الدّنيا، وقد قال أبو الطّيب المتنبّي ما يفيد هذا المعنى، وإن لم يكن ممّا نحن فيه:
كَالبَدْرِ مِن حَيْثُ التَفَتَّ رَأَيتَهُ يُهْدِي إِلَى عَيْنَيْكَ نُورًا ثَاقِبًا
ولكل عالم نواميس تخصّه، ومن الغلط البيّن الحكم على عالم بأحكام عالم آخر.
وقد نهى عمر عن رفع الصّوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى الإمام مالك المنصور عن رفع صوته كذلك، ونهت السّيّدة عائشة عن دق الوتد بالدّور المجاورة للحجرة الشّريفة، مخافة أن يتأذّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت تدخل مشدودًا عليها إزارها بعد دفن عمر حياء من عمر … إلى غير ذلك ممّا هو معروف في كتب السّنن والآثار.
فلو كانوا منقطعين عن هذا العالم تمام الانقطاع على ما يقول هؤلاء، لم يكن لذلك معنى، خصوصًا ما هو خارج عن المعقول في العادة، كعرض الأعمال عليه، واستغفاره لنا صلى الله عليه وسلم، ورد السّلام على كل من يسلِّم عليه، وهو ثابت لا مراءَ فيه وقد كتبنا فيه في العام الماضي.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن أذيّة الميّت، وكسر عظمه، والجلوس على قبره، مخافة تأذِّيه … إلى غير ذلك، وهو كثير، ولا يمكننا في هذه العجالة إلا أن نلمح إليه، وندل على ما وراءَه.
ولا نزال نكرّر أنّه إذا لم يكن في هذا إلاَّ ما كان في حديث المعراج من أسف سيّدنا موسى على بني إسرائيل، ومراجعة النّبي في أمر الصلاة، واجتماع الأنبياء في بيت المقدس وخطبهم، لكفى.
وقد ذكر ابن القيّم في كتاب الرّوح حديث مذاكرة الأنبياء في أمر السّاعة، وأنّه إذا جاء عيسى عليه السّلام كانت كالحامل المتم فلو كانت الأرواح على ما يقولون لم يكن لهذا معنى.
ومع كل هذا نسلّم لهم صحّة ما يقولون، ونفرض أنّنا نحن المخطئون، فهل يوجب ذلك شركًا أو كفرًا؟ وقد قلت لبعض أذكياء العامّة في المولد الحسيني وقد قال يا رسول الله إن الوهّابيّة يكفّرونك بقولك يا رسول الله، كما في الهدية السنية وغيرها، فقال إن كنا نقول يا رسول الله على ما نريد، فلا معنى للكفر، وإن كنّا نقوله على ما يريدون من تأليه الرّسول، فنحن كفّار! فأعجبني هذا منه، فقلت له وهل يسمعك وأنت هنا وهو بالمدينة؟ فلم يجب جوابًا شافيًا.
ونحن نقول إن هذا الاستبعاد منشؤه قياس الغائب على الشاهد، وقد عرفنا أن سمع الأجسام لا يصل إلا إلى مسافة محدودة ضئيلة، ولكن هل عرفنا المسافة الّتي يصل إليها سمع الأرواح، وماذا أعطيت من ذلك؟! وكيف ندرك أن عمر وهو بالمدينة أسمع سارية وهو بنهاوند من أرض العجم؟!
وأس الغلط في هذا وأمثاله أنّنا نعطي أحكام العوالم المختلفة بعضها لبعض، مع أن لكل عالم أحكامًا تخصّه، ونواميس ليست لغيره، فقياس عالم الأرواح على عالم الأشباح من أفسد الأقيسة وأبطلها، والواقفون عند ما عرفوا من أحكام هذا العالم فحسب، إنّما هم المادّيون لا أتباع الرّسل (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) سورة يونس 39، أمّا قولكم إنّهم يطلبون مالا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى، فكلام لا تحقيق فيه، فهو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
فإنّنا نقول أوّلاً:
هب أن الأمر كذلك، وقد أخطأ ذلك السّائل فظن غير الممكن ممكنًا، وغير المقدور للبشر مقدورًا له، أفيكفر بذلك، أم يعذر بجهله وخطئه وهو لم يعتقد الألوهيّة على كل حال؟!
وثانيًا نقول لكم إنّنا لم ندّع أنّه يفعل ذلك استقلالاً من عند نفسه، بل نقول إنّه يفعله بإذن الله، وبعبارة أخرى نقول أعطاه من المواهب ما لا تعقلونه.
وهل عرفتم ما يصح أن يعطيه الله عبيده المقرّبين وما لا يصح؟! وهل ثبتت عندكم تلك الحدود الّتي لا يصح لله أن يتجاوزها مع عبيده؟!
وهل كان الإتيان بعرش بلقيس قبل أن يرتد الطّرف مما يقدر عليه البشر في نظركم؟! وهل كان رد عين قتادة رضي الله عنه وقد سالت على خدّه فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم فردّها إليه، فكانت أحسن عينيه، مما يقدر عليه البشر في رأيكم؟! وهل رؤية عمر بن الخطّاب لسارية وجيشه ببلاد العجم مما يقدر عليه البشر؟! وهل إسماعه صوته وهو بنهاوند مما يقدر عليه البشر؟! وهل قول بني إسرائيل لموسى عليه السّلام (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) سورة الأعراف 134، مما يقدر عليه البشر؟! إلى غير ذلك، وهو طويل عريض، أم الخوارق كلّها من هذا القبيل لا يقدر عليها البشر في العادة، ولكنه يقدر عيها بإقدار الله إيّاه؟
وهل تقيسون الأرواح على الأشباح؟! وهل عرفتم نواميسها وما تنتهي إليه، أم ذلك قياس الغائب على الشاهد كما قلنا؟ فهو قياس مع الفارق، بل مع ألف فارق.
وهل إذا رأيتم بني إسرائيل يطلبون من عيسى عليه السّلام إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، تقولون إن هذا مما يقدر عليه البشر؟! وهل إذا رأيتم النبي صلى الله عليه وسلم يضرب جبل أحد ويأمره أن يثبت ولا يتحرّك، تقولون إنّ ذلك يقدر عليه البشر؟! وهل إذا رأيتموه يأمر الشجر فيمتثل أمره، ويخد الطّريق خدًّا، تقولون إنّ ذلك ممّا يقدر عليه البشر؟!
وهل إذا رأيتموه وقد نبع الماء من بين أصابعه قلتم إن ذلك مما يقدر عليه البشر؟! إلى غير ذلك مما جاء في الصحيح، ولا يمكنكم المكابرة فيه.
على أن لنا أن نقول إن كل شيء مقدور للمبشر بالدعاء، فما لا يقدر عليه البشر بالذّات يستطيعه بالدّعاء، فالفاعل في الحقيقة هو الله لا غيره، والّذي يستغيث بالنبي مثلاً لا يريد منه إلاّ هذا.
وقد عرفنا أنّه صلى الله عليه وسلم يستغفر لنا بعد موته، كما في الحديث الصّحيح (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ)…..إلخ، وقد بيّنا صحّته بلا مزيد عليه في العام الماضي، ويمكننا أن نتوسّع في هذا المقام كثيرًا، فسماع الموتى وإدراكهم لا شك فيه لمن يؤمن بالله وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال السّيوطي في منظومته:
سَمَعُ مَوْتَى كَلاَمَ الخَلْقِ قَاطِبَةً *** جَاءَتْ بِهِ عِنْدَنَا الآثَارُ فِي الكُتُبِ
وقد قدّمنا أنّ ابن تيميّة نفسه ذكر أن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان والإقامة في زمن الحرّة من قبره صلى الله عليه وسلم.
وأمّا جعلهم هذا عبادة، وعبادة غير الله كفر، فهو من مجازفاتهم الشّنيعة، فإنّهم إذا فهموا أنّ كل تعظيم عبادة، أو كل طلب عبادة، فقد برهنوا على جهلهم، فإنّا رأينا إخوة يوسف قد سجدوا ليوسف، والملائكة قد سجدوا لآدم، وليس هناك شيء أبلغ في التّعظيم من السّجود، فإذًا ليس التّعظيم شركًا لذاته مهما بلغ أمره، ولو كان ذلك وصفًا ذاتيًّا له لوجب ألاَّ يفارقه، فالتّعظيم لا يكون عبادة إلاَّ إذا كان معه اعتقاد الرّبوبيّة.
وأمّا الدّعاء الّذي يتمسّكون به، ويستدلون عليه بمثل قوله تعالى (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) سورة الجن 18 إلى آخر الآيات الكثيرة التي نزلت في المشركين، فطبّقوها على المسلمين، زاعمين أنّ الدّعاء عبادة، وعبادة غير الله كفر، فهو تلبيس لا ينبغي أن يصدر إلاَّ من غاش أو جاهل، فإنّ الدّعاء مشترك.
فإذا قالوا إنّ كل دعاءٍ عبادة، رد عليهم قوله تعالى (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) سورة النّور 63، (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) سورة نوح 5،6، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة يونس 25، (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) سورة القصص 25 إلى غير ذلك، ورد عليهم أنّهم يدعون الأمير والوزير، فهذا دعاء لغير الله، فيلزمهم على هذا الفرض أن يكون ذلك شركًا، وأن يكون الدعاء في تلك الآيات بمعنى العبادة، وهو ما لا يقوله أحد.
وإن قالوا إنّ الطّلب من غير الله كفر، وهذا هو العبادة، لزمهم كفر العالم كلّه، ولا معنى هنا للفرق بين الحيّ والميّت كما أوضحناه، فلا يقول إن مجرد الطّلب من غير الله عبادة إلاَّ من لا يدري ما يقول، وإن قالوا إنّ الطّلب من الأولياء والأنبياء هو الكفر لا غير، قلنا إنّ هذا هو محل النّزاع، وهذه هي الدّعوى الّتي لم يقم عليها دليل، بل قام على بطلانها ألف دليل.
وإيراد الآيات النّازلة في حق المشركين العابدين لغير الله لا معنى له ولا غناء فيه، فهل نظفر منهم بعد ذلك بشيءٍ من الإنصاف، حتى يرحموا هذه الأمّة المسكينة، فلا يكفّروها ولا يستبيحوا دماءَها؟! إنّي أشك في ذلك ولا أكاد أتوقّعه، ولكننا نكتب لغيرهم، خشية أن ينخدعوا بترّهاتهم وضلالاتهم. انتهى
(3) مقالات وفتاوى الشّيخ يوسف الدّجوي ط دار البصائر (1/335) وقد عُزِيَ إلى مجلة الأزهر الجزء الخامس المجلد الرابع ربيع الآخر 1352 هـ