أصبغ بن الفرج من أفقه أهل مصر
3 يونيو 2020أئمة مذهب مالك وأعلامه بالعراق إسماعيل بن إسحاق القاضي
8 يونيو 2020بيان كفر من شك في قدرة الله على كل شئ
بيان كفر من شك في قدرة الله على كل شئ
في كتاب التحذير من المجازفة بالتكفير للدكتور عمر عبد الله كامل أنه قال (لكي نحكم على شخص بالكفر لأنه عمل عملا أو قال قولا أو اعتقد اعتقادا هو كفر فلا بد قبل الحكم من التأكد من معرفة هذا الشخص بأن ما يفعله كفر وأنه مخالف لما يجب فعله من الحق والصواب) اهـ ثم قال (وقد ثبت في نصوص أخرى أن الله لا يؤاخذ الجاهل ولو كان جهله بمسائل في العقيدة) اهـ ثم أورد حديث البخاري في المسرف على نفسه محتجا به لمقالته الفاسدة وليس له في ذلك حجة ونص الحديث (كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال يا رب خشيتك فغفر له) اهـ وفي رواية أخرى (مخافتك يا رب) قال الدكتور عمر عبد الله كامل (فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن ءادم بعدما أحرق وذرى) إلى أن قال (ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل صالحا وهو خوفه من الله أن يعاقب على ذنوبه غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله). اهـ
قلتنا: قد ظن هذا الرجل أن المسرف على نفسه المذكور في الحديث شك في قدرة الله عليه ليس كذلك، قال الحافظ ابن الجوزي (جحده صفة القدرة كفر اتفاقا). اهـ
وإنما قيل إن معنى قوله (لئن قدر الله علي) أي ضيق فهو كقوله تعالى (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (سورة الطلاق) أي ضيق، ولعل هذا الرجل المذكور في الحديث قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط أي سبق لسان ذلك الآخر فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أو يكون قوله (لئن قدر علي) بتشديد الدال أي قدر علي العذاب ليعذبني.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث (وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله) فإذا عرف هذا علم أنه لا يعذر أحد في الجهل بقدرة الله ونحوها من صفاته مهما بلغ الجهل بصاحبه وكن على ذكر لنقل ابن الجوزي الإجماع على ذلك، وأما قول الشافعي (إن من جهل صفة من صفات الله إن كان لا يدرك اتصاف الله بها بالفكر والروية لا يكفر إلا بعد أن يعرف) مراد الشافعي بهذا ما سوى الصفات الثمانية التى يدل عليها العقل ولو لم يرد نص بإثباتها لله وهي الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والبقاء لأن هذه الصفات العقل يدل على ثبوتها لله تعالى وأما الصفات التي لا يدل عليها العقل إنما أخذت من السمع أي النقل من القرءان والحديث كالوجه واليد والعين فإن هذه لا تعرف إلا بطريق النقل فإذا جهل شخص هذه الصفات لا يكفر إلا بعد أن يكون علم بورودها في الشرع وذلك لأن الإنسان الذي عرف الله أنه موجود لا يشبه شيئا سواه لا يخطر له ببال أن لله صفة اسمها وجه وصفة اسمها يد وصفة اسمها عين إنما الذي علم ثبوته شرعا يحملها على أنها صفات لا جوارح، هذا مراد الشافعي بدليل أنه كفر المشبه المجسم والقدري الذي ينفي خلق الله لأفعال العباد والبهائم وكل ذي روح حتى البقة لأن القدرية يقولون هؤلاء كلهم هم يخلقون أعمالهم حركاتهم وسكناتهم.
وما أعظم هذا الفساد الذي في مقالة الدكتور هذه لأنه على قوله كل إنسان يفعل كفرا كإلقاء المصحف في القاذورة أو يقول قولا كفرا كقول الله ثالث ثلاثة أو الله ظالم أو يعتقد عدم علم الله ببعض الأشياء فيعذر على قوله لأنه إن لم يعتقد المعنى وقال أنا ما اعتقدت هذا وما أردت الخروج من دين الإسلام إلى دين غيره فعلى قوله وقول أولئك الأربعة (1) يخلى سبيله ولا يقام عليه حد الردة وهذا دين جديد، ودين الله برئ منه، والذي يصدق كلام هؤلاء يكفر بالقول وبالفعل وبالاعتقاد ويقول أنا ما أردت الانتقال من دين الإسلام إلى غيره فيرى هذا رخصة، وهذا فتح باب الكفر للناس على مصراعيه، يقال لهم هل تستطيعون أن تقيموا حادثه في التاريخ الإسلامي أن إنسانا سب الله أو سب الرسول ثم أخذ إلى الحكام فقال أنا ما نويت الخروج من الإسلام فأخلي سبيله من غير أن ينفذ فيه أحكام الردة إن اعترف أو شهدت عليه بينة عادلة، لقد تركتم كلام الفقهاء بمن فيهم من مجتهد ومن دون مجتهد ودعوتم الناس إلى خلاف ما جري عليه عمل المسلمين لأن العلماء اتفقوا على أن الكفر القولي والكفر الفعلي كفر من غير أن ينضم إليه اعتقاد كما سبق، فالكفر إما قول بمفرده أو اعتقاد بمفرده أو فعل بمفرده أو ينضم إلى أحد هؤلاء غيره.
ويدل عليه قوله تعالى (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ) (سورة النحل الآية) قال الحافظ ابن حجر عند ذكر هذا الآية (الكفر يكون باعتقاد وبدون اعتقاد) ولن تجدوا عالما حق عالم يوافقكم على كلامكم، فاتقوا الله واعلموا أنكم خالفتم الآية، الله فرق بين المكره وغيره فجعل المكره إذا خلا عن الاعتقاد لا يحكم عليه بالكفر وأنتم ساويتم بين المكره وغيره فكذبتم الآية فاعلموا ذلك، فماذا تقولون فيما رواه البخاري من أن معاذ بن جبل زار أبا موسى الأشعري وكانا مبعوثين من قبل الرسول إلى اليمن وكان معاذ راكبا بغلة فرأي إنسانا مقيدا فقال ما هذا؟ فقيل إن هذا كان مسلما ثم كفر، فقال معاذ لا أنزل حتى يقتل فقتل فنزل عن دابته ولم يقل معاذ هل سألتموه أكان قاصدا الانتقال من الإسلام الذي كان عليه إلى دين ءاخر بدل دين الإسلام أم لا، ولا قال لهم هل سألتموه إن كان قال ما قال عن الاعتقاد أم لا، فيما تزعمونه مخالف للقرءان والحديث وما كان عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل العلم فأنتم شاذون عن كل هؤلاء فاعلموا أنكم قد خرقتم الإجماع ودعوتم الناس إلى خرقه.
(1) سيد سابق وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي ومعهم محمد بن علوي المالكي المكي (مرّ ذكرهم في الدّرس السّابق).