وُجُوبُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الفَائِتَةِ بِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ أو بِدُونِ عُذْر
رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالصِّحَاحِ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ)، فَفِي هَذَا الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ تَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ بِهَا الَّذِي تَرَكَهَا، وَلَا يَجُوزُ وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَقْضِيَهَا عَنْهُ غَيْرُهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
فَإِنْ نَامَ الشَّخْصُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَأَفَاقَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَلَيْهِ القَضَاءُ وُجُوبًا، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُم مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةَ الْأُخْرَى) الحَدِيثَ.
فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الوَقْتَ وَلَم يُصَلِّهَا مُتَعَمِّدًا إِخْرَاجَهَا عَنْ وَقْتِهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ ءَاثِمٌ وَاقِعٌ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ.
وَفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ ءَالَةً كَالْمُنَبِّهِ لِيَسْتَيْقِظَ لِأَدَاءِ الصُّبْحِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ لَم يُدْرِكْ مِنَ الوَقْتِ شَيْئًا ثُمَّ قَضَاهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ وَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا.
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مَا نَصُّهُ [وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ الوَقْتِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ نَوْمَهُ يَسْتَغْرِقُ الوَقْتَ، لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بَعْدُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً عَابَتْ زَوْجَهَا بِأَنَّهُ يَنَامُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلَا يُصَلِّي الصُّبْحَ إِلَّا ذَلِكَ الوَقْتَ فَقَالَ: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مَعْرُوفٌ لَنَا ذَلِكَ (أَيْ يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ).
وَأَمَّا إِيقَاظُ النَّائِمِ الَّذِي لَمْ يُصَلِّ، فَالأَوَّلُ (وَهُوَ الَّذِي نَامَ بَعْدَ الوُجُوبِ) يَجِبُ إِيقَاظُهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الَّذِي نَامَ قَبْلَ الوَقْتِ فَلَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَم يَتَعَلَّقْ بِهِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَالأَوْلَى إِيقَاظُهُ لِيَنَالَ الصَّلَاةَ فِي الوَقْتِ]. اهـ
وَقَالَ البَّنَّانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: (وَلَا إِثْمَ عَلَى النَّائِمِ قَبْلَ الوَقْتِ). اهـ
وَقَدْ شَذَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُجَسِّمَةُ العَصْرِ الوَهَّابِيَّةُ، فَجَاءَ فِي مَا يُسَمَّى فَتَاوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ فِي الفَتْوَى (15136) مَا نَصُّهُ: (يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَ الأَسْبَابَ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى الاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ مُبَكِّرًا وَوَضْعُ الْمُنَبِّهِ أَوِ الطَّلَبُ مِمَّنْ يَسْتَيْقِظُ مُبَكِّرًا أَنْ يُوْقِظَهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ). اهـ وَهَذِه فَتْوًى شَاذَّةٌ مُصَادِمَةٌ لِحَدِيثِ (لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ) السَّابِقِ الذِّكْرِ وَلِأَقْوَالِ الفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ كَمَا بيَّنَّا.
وَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ فَاتَتْهُ بِعُذْرٍ فَكَذَلِكَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى مَنْ تَرَكَهَا عَامِدًا بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي هَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِم عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً عَمْدًا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا، وَخَالَفَهُم أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا أَبَدًا وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهَا أَبَدًا، قَالَ: بَلْ يُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ الخَيْرِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِيَثْقُلَ مِيْزَانُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَسْتَغْفِرَ اللهَ تَعَالَى وَيَتُوبَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، وَبَسَطَ هُوَ الكَلَامَ فِي الاسْتِدْلَالِ لَهُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ دِلَالَةٌ أَصْلًا. اهـ
وَقَالَ (أيِ النَّوَوِيُّ) فِي الرَّوْضَةِ أَيْضًا: قَالَ الإِمَامُ: وَالْمُتَعَدِّي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عَلَى الفَوْرِ بِلَا خِلَافٍ. اهـ
وَقَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي التَّوْضِيحِ عَلَى البُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: وَخُرُوجُ وَقْتِ العِبَادَةِ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَهَا لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ. اهـ
وَقَالَ أَيْضًا فِي الإِعْلَامِ بِفَوَائِدِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ مَا نَصُّهُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ (أَيْ فِي الحَدِيثِ) (إِذَا ذَكَرَهَا) وَالعَامِدُ ذَاكِرٌ لِتَرْكِهَا فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا. اهـ
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. اهـ
وَقَالَ ابْنُ بَطَّال فِي شَرْحِهِ عَلَى البُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ [يَعْنِي حَدِيثَ (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ)] رَدٌّ عَلَى جَاهِلٍ انْتَسَبَ إِلَى العِلْمِ وَهُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَامِدًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) وَلَمْ يَذْكُرِ العَامِدَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ القَضَاءُ وَإِنَّمَا يَقْضِيهَا النَّاسِي وَالنَّائِمُ فَقَطْ، وَهَذَا سَاقِطٌ مِنَ القَوْلِ يَؤُولُ إِلَى إِسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنِ العِبَادِ”، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ. اهـ
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ مَا نَصُّهُ: اتَّفَقَ جَمَاعَةُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. اهـ
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيْدِ فِي الإِحْكَامِ مَا نَصُّهُ: وُجُوبُ القَضَاءِ عَلَى العَامِدِ بِالتَّرْكِ مِن طَرِيقِ الأَوْلَى، فَإِنَّهُ إذَا لَم تَقَعِ الْمُسَامَحَةُ مَعَ قِيَامِ العُذْرِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ فَلَأَنْ لَا تَقَعَ مَعَ عَدَمِ العُذْرِ أَوْلَى. اهـ
وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ حَزْمٍ بِالشُّذُوذِ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الإِجْمَاعِ بَلْ وَافَقَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ شَيْخُ الْمُجَسِّمَةِ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ وَأَتْبَاعُهُمَا مِنَ الوَهَّابِيَّةِ مُجَسِّمَةِ العَصْرِ، وَقَدَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الفَتَاوَى الكُبْرَى فَقَالَ: (وَتَارِكُ الصَّلَاةِ عَمْدًا لا يُشْرَعُ لَهُ قَضَاؤُهَا ولا تَصِحُّ مِنْهُ بَلْ يُكْثِرُ مِنَ التَّطَوُّعِ وَكَذَا الصَّوْمُ). اهـ
وَفِي خُرُوجِ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ وَالوَهَّابِيَّةِ عَنِ الإِجْمَاعِ وَمَفْهُومِ الحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الثَّابِتِ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ فَتْحُ بَابِ تَرْكِ الصَّلَاةِ لِلنَّاسِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ وَتَشْجِيْعٌ لَهُم عَلَى ذَلِكَ بِتَهْوِينِ الأَمْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَتَسْهِيلِهِ عَلَى الْمُتَكَاسِلِينَ عَنْ تَأْدِيَتِهَا، فَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ.