مقولة الإمام مالك في البدعة
3 أغسطس 2023حكم تكرار صلاة الجنازة على الميت
8 أغسطس 2023اللهُ خَالِقُ الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ
عقيدة أهل السنة في الأسباب والمسببات
اللهُ خَالِقُ الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ
الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ مُسَبَبَاتِهَا
في المدخل لأبي عبد الله محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج (ت ٧٣٧ هـ) وَآكَدُ مَا عَلَى الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قُوَّةُ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقُ فَيَمْشِي عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَوَاتِهَا، وَلَا بِخَاصِّيَّةٍ فِيهَا بَلْ بِمَحْضِ اعْتِقَادِهِ بِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ فِي شَيْءٍ، فَالدَّوَاءُ لَا يَنْفَعُ بِنَفْسِهِ بَلْ الشِّفَاءُ وَغَيْرُهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَخْلُقُهُ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ وَيَمْنَعُهُ إنْ شَاءَ، وَيُمْرِضُ بِهِ إنْ شَاءَ، وَمِثْلُهُ الْخُبْزُ لَا يُشْبِعُ بِنَفْسِهِ، وَالْمَاءُ لَا يَرْوِي، وَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ وَالسِّكِّينُ لَا تَقْطَعُ، فَلَوْ شَاءَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُشْبِعَ بِالْخُبْزِ لَفَعَلَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَرْوِيَ بِالْمَاءِ لَفَعَلَ (1).
قَالَ الإمام الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا شَافِيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ (لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ) فَيَعْتَقِدَ الشِّفَاءَ لَهُ وَبِهِ وَمِنْهُ، وَأَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ لَا تُوجِبُ شِفَاءً، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ وَوَسَائِطُ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهَا فِعْلَهُ، وَهِيَ الصِّحَّةُ الَّتِي لَا يَخْلُقُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ فَكَيْفَ يَنْسِبُهَا عَاقِلٌ إلَى جَمَادٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ أَوْ سِوَاهَا؟، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَخَلَقَ الشِّفَاءَ بِدُونِ سَبَبٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ أَسْبَابٍ جَرَتْ السُّنَّةُ فِيهَا بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ عَلَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ (بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، وَاَللَّهُ يَشْفِيكَ) فَبَيَّنَ أَنَّ الرُّقْيَةَ مِنْهُ وَهِيَ سَبَبٌ لِفِعْلِ اللَّهِ وَهُوَ الشِّفَاءُ (2).
نجدُ كثيرًا من الأسبابِ تُستعملُ ولا يوجدُ إِثرها الـمُسببُ فبذلكَ يُعلمُ أنَّ الأسبابَ بقدَرِ اللهِ، فإنْ سَبَقَ في مشيئةِ اللهِ وعلمِهِ الأزليَيْنِ وجودُ هذا الـمُسببِ إثرَ السببِ كان ذلك حتمًا حصولُه، لأنَّ اللهَ شاءَ وعَلِمَ أنَّ هذا السببَ يحصلُ إثرَهُ المسبَبُ لا محالةَ من ذلكَ، أما إن لم يكن سَبقَ في علمِ اللهِ ومشيئتِه حصولُ المسببِ إثرَ هذا السببِ فلا يحصلُ ذلك المسببُ، ورُوي فيما يشهدُ لهذا حديثًا في صحيحِ ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ اللهَ خلَق الدَّاءَ وخَلَقَ الدَّواءَ فإذا أُصيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذنِ اللهِ) قولهُ (بَرَأ بإذنِ الله) دليلٌ على أن الأسبابَ من أدويةٍ وغيرِها لا تُوجبُ بطبعِها بذاتِها حصولَ الـمُسبَبِ وشاهدُ الواقع يشهدُ بذلك، نرى كثيرًا من الناسِ يتداوَوْنَ بدواءٍ واحدٍ وأمراضُهم مُتَّحِدَةٌ فيتعافى بعضٌ منهم ولا يتعافى الآخَرُونَ، فلوْ كان الدَّوَاءُ هو يَخْلُقُ الشِّفَاءَ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ الدَّوَاءَ يتعافى حَتْمًا ولم يكن هناك حصولُ الشفاءِ لبعْضٍ وعدمُ حصولِه لبعْضٍ، لهذا قَالَ عليه الصَّلَاةُ والسلامُ (فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذنِ اللهِ) فبذلكَ نَعلمُ أن الأدويةَ وجُودُها بتقديرِ اللهِ والشفاءَ بتقديرِ اللهِ، ليستِ الأدويةُ تخلقُ الشفاءَ بحيثُ لا يتخلفُ عندَ استعمالِ أيِّ دواءٍ حصولُ الشفاءِ إثرَه.
واعْلَمْ أَنَّ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ مُسَبَبَاتِهَا وَأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُسَبَّبُهُ فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَجْرَى السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ تَقْطَعْ وَرَمَاهُ قَوْمُهُ فِى النَّارِ الْعَظِيمَةِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ وَإِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْقَيْدَ الَّذِى قَيَّدُوهُ بِهِ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلانِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ رَمَاهُ الأَسْوَدُ الْعَنْسِىُّ فِى النَّارِ فَلَمْ يَحْتَرِقْ وَعَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ أَبِى نُعُم الْوَلِىُّ الصَّالِحُ حَبَسَهُ الْحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ فِى سِجْنٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ فَوَجَدَهُ صَحِيحًا فَأَعْفَاهُ مِنَ الْقَتْلِ وَرَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ الَّتِى عَاشَتْ دَهْرَهَا وَلا أَكْلَ يَدْخُلُ جَوْفَهَا وَهِىَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَا كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِى مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِىَ لا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلا تَشْرَبُ فَالأَكْلُ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَتَرْكُ الأَكْلِ لا يَخْلُقُ الضَّرَرَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ مُسَبَّبَاتِهَا وَأَنَّ الأَشْيَاءَ تَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ خَالِق الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ أَىْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
________
(1) المدخل للعلامة ابن الحاج المالكي (119/4).
(2) نفسه (121-120/4).