الردّ على المشبهة في تعلّقهم بالآية (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) لنصرة عقيدتهم الفاسدة (من التفسير الكبير للفقيه الأصولي المفسّر فخر الدين الرازي الشافعي الأشعري ت 606هـ)
23 ديسمبر 2018اتَّقوا الظُّلْم
23 ديسمبر 2018وِلادَةُ سَيِّدِنا عِيسَى المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلام
وِلادَةُ سَيِّدِنا عِيسَى المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنا، مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه وَمَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَه، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ عَلى سَيِّدِنا محمَّدٍ وعَلى ألِهِ وصَحْبِه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلاَ مَثِيلَ لَهُ وَلاَ ضِدَّ وَلاَ نِدَّ لَه وَلاَ والِدَ وَلاَ وَلَدَ وَلاَ صاحِبَةَ لَه، الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَد، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وَحَبِيبَنا وَعَظِيمَنا وَقائِدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَحَبِيبُه، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ.
أَمَّا بَعْدُ عِبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَدِيرِ القائِلِ فِي مُحْكَمِ كِتابِهِ ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٤٥ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ٤٦﴾(سورة أل عمران آية 45ـ46).
إِخْوَةَ الإِيمانِ، يَطِيبُ لَنا اليَوْمَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْ نَبِيٍّ عَظِيمٍ مِنْ أُولِي العَزْمِ خَصَّهُ اللهُ بِمِيزَةٍ عَظِيمَةٍ بِأَنْ خَلَقَهُ اللهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَمَا ذَاكَ بِعَزِيزٍ عَلَى اللهِ فَقَدْ خَلَقَ أَبانا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ، قالَ تَعالى فِي القُرْأنِ الكَرِيمِ ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥكُن فَيَكُونُ ٥٩﴾، وَأُمُّ سَيِّدِنا عِيسَى أَيُّهَا الأَحِبَّةُ هِيَ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ عَلَيْها السَّلامُ أَفْضَلُ نِساءِ الدُّنْيا الَّتِي وَصَفَها اللهُ تَعالَى فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ بِالصِّدِّيقَةِ وَالَّتِي نَشَأَتْ نَشْأَةَ طُهْرٍ وَعَفافٍ وَتَرَبَّتْ عَلى التَّقْوَى تُؤَدِّي الوَاجِباتِ وتَجْتَنِبُ الْمُحَرَّماتِ وَتُكْثِرُ مِنْ نَوافِلِ الطَّاعاتِ وَالَّتِي بَشَّرَتْها الـمَلائِكَةُ بِاصْطِفاءِ اللهِ تَعالَى لَها مِنْ بَيْنِ سائِرِ النِّساءِ وَبِتَطْهِيرِها مِنَ الأَدْناسِ وَالرَّذائِلِ، ﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٢﴾ (سورة أل عمران آية).
وَالـمَلائِكَةُ إِخْوَةَ الإِيمانِ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلاَ إِنَاثًا بَلْ هُمْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَقَدْ يَتَشَكَّلُونَ بِهَيْئَةِ الذُّكُورِ مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ءَالَةُ الذُّكُورِيَّةِ، وَعَلى هَذِهِ الْهَيْئَةِ أَرْسَلَ اللهُ سَيِّدَنا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمًا إِلى السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ مُتَشَكِّلاً بِشَكْلِ شابٍّ أَبْيَضِ الوَجْهِ فَلَمَّا رَأَتْ سَيِّدَتُنا مَرْيَمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مُتَشَكِّلاً فِي صُورَةِ رَجُلٍ أَبْيَضِ الوَجْهِ لَمْ تَعْرِفْهُ فَفَزِعَتْ مِنْهُ وَاضْطَرَبَتْ وَخافَتْ عَلى نَفْسِها مِنْهُ وَظَنَّتْهُ إِنْسانًا جاءَ لِيَعْتَدِيَ عَلَيْها، فَقالَتْ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ١٨﴾ (سورَةُ مَرْيَم آية 18) أَيْ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا مُطِيعًا فَلا تَتَعَرَّضْ لِي بِسُوءٍ فَقالَ لَها إِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْها لِيَهَبَها وَلَدًا صالِحًا طاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ فَقالَتْ مَرْيَمُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَقْرَبْنِي زَوْجٌ وَلَمْ أَكُنْ فاجِرَةً زانِيَةً؟ فَأَجابَها جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ تَعَجُّبِها بِأَنَّ خَلْقَ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ هَيِّنٌ عَلى اللهِ تَعالى وَأَنَّ اللهَ سَيَجْعَلُهُ عَلامَةً لِلنَّاسِ وَدَلِيلاً عَلَى كَمالِ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى ورَحْمَةً وَنِعْمَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ وَأمَنَ بِهِ.
﴿فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا ٢٢ فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا ٢٣ فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا ٢٤ وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا ٢٥ فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا ٢٦﴾ (سورة مريم آية 22ـ26).
نَفَخَ إِخْوَةَ الإِيمانِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي جَيْبِ دِرْعِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَهِيَ الفَتْحَةُ الَّتِي عِنْدَ العُنُقِ، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ تَنَحَّتْ بِحَمْلِها بَعِيدًا خَوْفَ أَنْ يُعَيِّرَها النَّاسُ بِوِلادَتِها مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، ثُمَّ أَلْجَأَها وَجَعُ الوِلادَةِ إِلَى ساقِ نَخْلَةٍ يابِسَةٍ وَهُناكَ خَوْفًا مِنْ أَذَى النَّاسِ تَمَنَّتِ الـمَوْتَ فَناداها جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ مَكانٍ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَسْفَلِ الجَبَلِ يُطَمْئِنُها وَيُخْبِرُها أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى جَعَلَ تَحْتَها نَهْرًا صَغِيرًا وَيَقُولُ لَهَا أَنْ تَهُزَّ جِذْعَ النَّخْلَةِ لِيَتَساقَطَ عَلَيْها الرُّطَبُ الجَنِيُّ الطَّرِيُّ وَأَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ مِمَّا رَزَقَها اللهُ وَأَنْ تَقَرَّعَيْنُها وَأَنْ تَقُولَ لِمَنْ رَأها وَسَأَلَها عَنْ وَلَدِها إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ أَنْ لا أُكَلِّمَ أَحَدًا وكانَ هَذا نَذْرًا صَحِيحًا في الشَّرائِعِ السابِقَة.
ثُمَّ بَعْدَ الوِلادَةِ الـمُبارَكَةِ أَيُّها الأَحْبابُ أَتَتِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ عَلَيْها السَّلامُ قَوْمَها تَحْمِلُ مَوْلُودَها عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَما أَخْبَرَنا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡٔٗا فَرِيّٗا ٢٧﴾ (سورة مريم آية 27) قَالَ لَها قَوْمُها لَقَدْ فَعَلْتِ فِعْلَةً مُنْكَرَةً عَظِيمَةً، ظَنُّوا بِها السُّوءَ وَصارُوا يُوَبِّخُونَها وَيُؤْذُونَها وَهِيَ ساكِتَةٌ لا تُجِيبُ لِأَنَّها أَخْبَرَتْهُمْ أَنَّها نَذَرَتْ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً، وَلَمَّا ضاقَ بِهآلحالُ أَشارَتْ إِلى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ كَلِّمُوهُ، عِنْدَها قالُوا لَها مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ بِقَوْلِهِ ﴿فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا ٢٩﴾ (سورة مريم آية 29) عِنْدَ ذَلِكَ إِخْوَةَ الإِيمانِ أَنْطَقَ اللهُ تَعالى القادِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ بِقُدْرَتِهِ سَيِّدَنا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَكانَ رَضِيعًا فَقالَ ما جاءَ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ﴾ أَنْطَقَهُ اللهُ في الْمَهْدِ فَكانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ قالها عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ﴾ اعْتِرافًا بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ الواحِدِ القَهَّارِ ﴿ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ﴾ أَيْ جَعَلَنِي نَفَّاعًا مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ حَيْثُما تَوَجَّهْتُ ﴿وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا ٣٣﴾ (سورة مريم آية 30ـ33).
ونَشَأَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ نَشْأَةً حَسَنَةً فَحَفِظَ التَّوْراةَ في الكُتّابِ وَعَمِلَ بِشَرِيعَتِها حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ الوَحْيَ فَخاطَبَ بَنِي إِسْرائِيلَ قائِلاً ما أَخْبَرَ اللهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ ﴿وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٦﴾ (سورة الصف آية 6) فَدَعَى عِيسَى قَوْمَهُ كَسائِرِ الأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَى الإِسْلامِ إِلى عِبادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الإِشْراكِ بِهِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوهُ وَحَسَدُوهُ وَقالُوا عَنْهُ ساحِرٌ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِلاَّ القَلِيلُ وَأذَوْهُ وَسَعَوْا إِلى قَتْلِهِ لَكِنَّ اللهَ حَفِظَهُ وَرَفَعَهُ إِلى السَّماءِ كَما جاءَ فِي القُرْأنِ الكَرِيمِ.
وَقَدْ بَشَّرَ سَيِّدُنا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَغَيْرِهِ مِنْ رُسُلِ اللهِ بِخاتَمِ الأَنْبِيَاءِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ وَأَوْصَى أَتْباعَهُ بِاتِّباعِهِ وَنُصْرَتِهِ إِنْ أَدْرَكُوهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعْدٍ النَّيْسابُورِيُّ فِي كِتابِهِ شَرَفُ الـمُصْطَفَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَشْخاصٍ خَرَجُوا مِنَ اليَمَنِ قَاصِدِينَ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ بِعْثَةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلٌ يُدْعَى جَعْدُ بْنَ قَيْسٍ الـمُرادِيُّ فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ فِي البَرِّيَّةِ فَنَزَلُوا فِي أَرْضٍ فَنَامُوا إِلاَّ جَعْدَ بْنَ قَيْسٍ الـمُرادِيَّ فَسَمِعَ جَعْدٌ هَذَا هاتِفًا لاَ يَرَى شَخْصَهُ يَقُولُ لَهُ:
أَلاَ أَيُّها الرَّكْبُ المُعَرِّسُ بَلِّغُوا *** إِذَا ما وَصَلْتُمْ لِلْحَطِيمِ وَزَمْزَمَا
مُحَمَّدًا المَبْعُوثَ مِـنَّا تَحِيَّـةً *** تُشَيِّعُهُ مِنْ حَيْثُ سارَ وَيَـمَّمَا
وَقُولُوا لَهُ إِنَّا لِدِيـنِكَ شِيعَةٌ *** بِذَلِكَ أَوْصانا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَا
فَهَذا الهاتِفُ أَيُّها الأَحِبَّةُ جِنِّيٌّ مُؤْمِنٌ أَدْرَكَ سَيِّدَنا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّماءِ وَأمَنَ بِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ وَصِيَّتَهُ بِالإِيمانِ بِمُحَمَّدٍ إِذَا ظَهَرَ وَاتِّباعِهِ، فَأَوْصَى هَذا الجِنِّيُّ جَعْدًا بِأَنْ يُبَلِّغَ سَلامَهُ إِلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ إِذَا مَا بَلَغَ مَكَّةَ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَأَلَ أَهْلَ مَكَّةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فَاجْتَمَعَ بِهِ وَأمَنَ بِهِ وَأَسْلَمَ وَكانَ هَذا قَبْلَ أَنْ يَنْتَشِرَ خَبَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ فَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى سائِرِ إِخْوانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالـمُرْسَلِينَ وفي هَذِهِ القِصَّةِ زِيادَةُ بَيانِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ جاءَ بِدِينِ الإِسْلامِ كَباقِي أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعالى كَما رَوَى البُخارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ الأَنْبِياءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ دِينُهُمْ وَاحِدٌ [أَيِ الإِسْلامُ] وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى [أَيْ شَرائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ] وأَنا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ. اهـ
هَذا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.