مِن السِيرة النبويّة الشَرِيفة
حسن خلق رسول الله والحكمة في تصرفاته المحفوفة بالعناية الربانية
مِنْ سِيْرَةِ ابْنِ هِشَامٍ
لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ (أَيِ الكَلَامُ الرَّدِيْءُ) حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْت فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْت عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إلَّا مِنْ قَوْمِي، قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ (وَهِيَ شِبْهُ الزَّرِيْبَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِلْإِبِلِ وَالمَاشِيَةِ لِتَمْنَعَهَا)، قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ (هَكَذَا الرّوَايَةُ جِدَةٌ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللّغَةِ مَوْجِدَةٌ أي عِتَابٌ) وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ)؟
أَلَمْ ءَاتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ، وَعَالَةً (أَيْ فُقَرَاءَ) فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ!
قَالُوا بَلَى، اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ (مِنَ الْمِنَّةِ وَهِيَ النِّعْمَةُ) وَأَفْضَلُ.
ثُمَّ قَالَ (أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَار)؟ قَالُوا بِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ للَّه وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ (أَيْ أَعْطَيْنَاكَ حَتَّى جَعَلْنَاكَ كَأَحَدِنَا).
أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا (أَيْ فِي مَتَاعٍ مِنْهَا، وَاللُّعَاعَةُ بَقْلٌ أَخْضَرُ نَاعِمٌ شُبِّهَ بِهِ مَتَاع الدُّنْيَا وَأَنَّهُ قَلِيلٌ لَا يَدُوْمُ) تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رحالكُمْ؟ فوالّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا (أَيْ طَرِيْقًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ) وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.
اللَّهمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ (أَيْ بَلُّوْهَا بِالدُّمُوْعِ)، وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قَسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقُوا. اهـ