الإمام التابعي الجليل أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه
6 نوفمبر 2018حديث (خَيرُكُم خَيرُكُم للنِّساءِ)
8 نوفمبر 2018السوداء غير الطبيعية الاحتراقية والقول الصواب في تشخيصها وأدلته
فتوى طبية
السوداء غير الطبيعية الاحتراقية والقول الصواب في تشخيصها وأدلته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
قد مثل الأطباء مسألة الاحتراق وحاصله بالنسبة للسوداء غير الطبيعية الاحتراقية، سواء كانت عن احتراق الدم أو احتراق البلغم أو احتراق الصفراء أو احتراق السوداء، بالحطب إذا احترق بالنار، فالاحتراق يفني الرطوبة تدريجيا حتى يصل الحطب إلى مرحلة الترمد، فخلال الاحتراق يترمد الحطب قليلا قليلا، فهذا المترمد هو بارد بالذات، لكنه حار بالعرض وبالفعل، فما دامت النار تفعل فيه بحرارتها، فإنه يبقى حارا، وهكذا السوداء غير الطبيعية الاحتراقية، سواء كانت دموية أو بلغمية أو صفراوية أو سوداوية، فما ترمد منها بالاحتراق فهو بارد بالذات، حار بالفعل والعرض، وقد شخصها الأطباء بحسب مزاجها العارض والفعلي، وليس بحسب المزاج الذاتي للمترمد منها، لذلك شخصوها بالعلل الحارة وليس الباردة، لأن الحكم عليها بأنها حارة كالحكم على الرماد المشتعل بأنه حار، وإن كان الرماد بذاته باردا، فالرماد المشتعل حار بالحس والمشاهدة، وإن أدخلت اليد فيه فإنها تحترق، فكما لا يحكم عليه بأنه بارد فيه شىء من الحرارة، لكون مزاج الرماد الذاتي بارد، كذلك لا يحكم على العلل الاحتراقية بأنها باردة فيها شىء من الحرارة، لكون المترمد منها بارد، لأنه من شخصها بأنها باردة فيها شىء من الحرارة لكون المترمد منها بارد، وقال (حاصل الاحتراق خلال الاحتراق بارد بناء على ما ترمد فالعلة باردة) فكأنما اعتبر الرماد المشتعل في الحطب بارد فيه شىء من الحرارة لكون المترمد بارد بالذات، وهذا مخالف للصواب لأنه مناف للحس والمشاهدة، وهذا مما لا خلاف فيه عند الأطباء.
ولكن إذا انطفأ الاحتراق، وزالت الحرارة، تتحول العلل وتصير باردة على القول الصحيح، والأطباء يعبرون عن هذا (بحاصل الاحتراق)، على أن هناك من قال عن حاصل الإحتراق بأنه يبقى فيه شىء من الحرارة كالرماد الساخن غير المشتعل بعد انطفاء الحرارة وانتهاء الاحتراق قبل أن يبرد.
ويُتعرّف على مراتب الإحتراق وحاصله، من خلال النبض، والبول، والبراز، وغير ذلك من العلامات الظاهرة، فالأطباء يحددون بناء عليه في أي مرحلة هي العلة، وهل ما زالت حارة، أم صارت باردة، أي هل هي احتراقية حارة، أم انتهى الاحتراق وصارت باردة، وبناء على ذلك يصفون العلاج.
الأطباء يقولون (تشخيص المرض أصل العلاج، وإلا فمن عالج بلا تشخيص فخطؤه أقرب من إصابته)، فالأطباء يعالجون العلل الإحتراقية بحسب تشخيص مرتبة الاحتراق، فإن كان الاحتراق موجودا، والحرارة مشتعلة، فيعالجها الأطباء بالبارد الرطب، وإن كان الإحتراق في نهايته، فيعالجونها بالأدوية المعتدلة الحرارة والبرودة الرطبة، وإن كان بعد انتهاء الاحتراق وتمامه، فيعالجونها بالأدوية الحارة الرطبة.
فليتنبه أنه من شخّص العلل الاحتراقية بأنها باردة، وأعطى الأدوية الحارة، فقد أهلك المريض وءاذاه وأضره ضررا شديدا، وليس لقائل أن يقول الفريقين على صواب، لأن العلة الواحدة لا تكون حارة وباردة في نفس الوقت، فإما أن تكون حارة، وإما أن تكون باردة، والعلاج يكون بالضد، فلا تعالج العلة الحارة بالحار، ولا الباردة بالبارد، فكيف يكون في هذه المسألة خلاف، والأطباء يعالجون مثلا الصداع الذي يكون عن السوداء الاحتراقية، بالأدوية الكثيرة التبريد، لأنه إن أعطي له الأدوية الحارة يؤدي به إلى الجنون! كما نص الطبيب المشهور نفيس بن عوض الكرماني، في شرح جزئيات الطب، عند كلامه عن الصداع ما نصه (والأولى أن يكون التبديل [أي تبديل المزاج] بالأشياء القليلة الحرارة المائلة إلى البرودة، إن كانت السوداء طبيعية، لأن بردها قليل، وأما إن كانت حراقية فتحتاج فيها إلى تبريد كثير، لتزول بها الحرارة الكامنة فيها، كما في الرماد، لئلا يسخن الدماغ ويؤدي إلى الجنون).
فالصواب في الإحتراق وحاصله أنهما مسألتان:
الأولى الاحتراق، وهو حار بلا خلاف، والثانية حاصل الاحتراق، وهو بارد على القول الصحيح، كما قال الأنطاكي. وكذلك كما قال الكازاروني عن حاصل الاحتراق أنه بارد، ولكنه اعتبر أيضا أن الاحتراق هو حار، وهو نفسه الكازاروني نص في بعض كتبه أنه يعالج الصفراء المحترقة والسوداء المحترقة بالتبريد الكثير، وعلى هذا جميع الأطباء.
أما السوداء غير الطبيعية الإجمادية التي تكون عن البرودة الشديدة، يقول عنها الأطباء عللها باردة وتعالج بالحار، ولا يطلق عليها اصطلاحا أنها سوداء غير طبيعية احتراقية، وعللها لا يقال عنها احتراقية.
فإن قيل (أليس فرط البرودة يؤدي إلى احتراق الأخلاط)؟
الجواب: في مصطلح الأطباء لا يقال عن الإجماد احتراق، لأنه بالإجماد يغلظ الخلط من غير أن تتحلل أجزاؤه الرقيقة، أما بالإحتراق يتحلل لطيفه ويغلظ غليظه، فلذلك لا يقال عن الإجماد احتراق.
يقول الطبيب خضر بن علي الخطاب، المعروف بحاجي باشا، في كتابه شفاء السقام ودواء الآلام ما نصه (وسبب السوداء الفاعلي حرارة معتدلة، إلا القسم الإحراقي والجمودي، فإن سبب الأول حرارة مفرطة، وسبب الثاني برودة مجمدة).
فإن قيل (السوداء غير الطبيعية الاحتراقية مختلف فيها، فمنهم من قال إنها حارة ومنهم من قال إنها باردة) فالرد عليه أن هذا الخلاف، محمول على حاصل الاحتراق، بعد تمامه وانتهائه وليس على الاحتراق.
فإن قيل (علل الاحتراق باردة، ولكن لا تخلو من حرارة، لكون السوداء غير الطبيعية احتراقية أي يوجد حرارة ما بسبب الاحتراق، لكن السوداء باردة فلذلك نعالجها بالأدوية الحارة مع قليل من الأدوية الباردة).
فالجواب: لا يكون احتراق من دون حرارة شديدة، لأن الحرارة الخفيفة تعدل برودة السوداء، ولا تحرقها فلا بد من حرارة شديدة ليكون هناك احتراق، وهذا يعني أن العلة لا بد أن تكون حارة، ولا بد أن يكون مزاج الدواء الكلي لها باردا، وإلا إن كان مزاج الدواء الكلي حارا، زاد حرارة العلة، وهذا مخالف بالإجماع لقوانين الطب.
فإن قيل (نحن نعني بالسوداء الاحتراقية حاصل الاحتراق، بأنه بارد ونعالجه بالحار).
فالجواب: لا بد من التمييز بين الاحتراق وحاصل الاحتراق، فإذا قال الأطباء سوداء احتراقية يعنون أنها علة حارة، وعلاجها بالبارد، وإذا قالوا حاصل الاحتراق يعنون أنها علة باردة وعلاجها بالحار، وعلى هذا باقي العلل الاحتراقية، وتحديد ذلك يكون من خلال النبض والبول والبراز وغير ذلك كما بينا من العلامات الظاهرة، فالأطباء يقررون في أي مرحلة هي العلة، لإعطاء العلاج المناسب.
يقول أبو علي بن العباس المجوسي (بأن السوداء غير الطبيعية التي تكون عن احتراق أي خلط من الأخلاط حارة).
ويقول الحكيم المولوي محمد عبد الرزاق الهندي في كتابه المحشى شرح الموجز (السوداء غير الطبيعية التي تكون عن احتراق حارة، والفرق بينها أن الصفراوية تميل إلى صفرة ما وتكون أحر الأصناف).
يقول ابن النفيس في شرح الأسباب والعلامات في شرحه على الأصول ما نصه (والسوداوي غذاؤه رطب مسخن هذا إذا كانت السوداء الغالبة طبيعية وأما إذا كانت حراقية فإن صاحبها يكون زائلا عن الصحة وتدبيرها إنما يكون بالتبريد الكثير وذلك لا يتأتى من الأغذية الدوائية بل من الدواء الصرف).
يقول الشيرازي في شرح كليات القانون ما نصه (والسوداء تحتاج إلى غذاء مرطب مسخن قليلا، إنما احتيج أن يكون مرطب السوداوي كثيرا لوجهين أحدهما أن يبوسة السوداء قوية، وثانيهما أن الترطيب في نفسه عسر فيحتاج أن يكون الموجب له قويا وأما احتياجه إلى مسخن قليلا فلأن برد السوداء قليل وهذا إنما يكون حيث السوداء طبيعية، أما إذا كانت حراقية فإن تدبيرها يحوج إلى تبريد كثير ولكن ذلك لا يجب أن يكون بالأغذية الدوائية لأن السوداء الحراقية فاسدة).
فلو كان الاحتراق باردا كما في تمامه وانتهائه، لما قال أبو علي المجوسي والحكيم المولوي محمد بن عبد الرزاق بأن السوداء غير الطبيعية الإحتراقية حارة، ولما عالج ابن النفيس والشيرازي والكرماني والكازاروني العلل الإحتراقية بالأدوية الباردة، ولكانوا وصفوا الأدوية الحارة، إلا أنهم وصفوا الدواء البارد الصرف لأجل الحصول على التبريد الكثير، بل ولم يقبلوا بأن يكون العلاج بالأغذية الدوائية الباردة، لأنها لا تكفي لإطفاء حرارة الاحتراق.
لذا فليتق الله تعالى من اعتبر أن السوداء غير الطبيعية الاحتراقية باردة، وخلط بين الاحتراق وحاصله البارد، وعالج الاحتراق على أنه بارد، لأنه ظن أن فيه خلاف، لكونه قرأ في بعض كتب الطب أن حاصل الاحتراق بارد، وعالج العلل الاحتراقية بالأدوية الحارة. ولا عبرة بقول بعض المعاصرين الذين خالفوا هذه الأصول.