هذهِ الأرض فيها دَلائل على وجُودِ خَالقٍ لها
29 يناير 2023عصمة الأنبياء من الكذب والجبن وسبق اللسان والجنون والأمراض المنفرة
1 فبراير 2023قصة نبي الله أيوب عليه السلام
كانَ سيّدُنا أيوبُ عليه السّلام قَبلَ أن يَنزلَ علَيهِ البَلاءُ وبَعدَ أن زَالَ عنه مِنَ الأنبياء الأغنياء، يَسكُن في قَريةٍ لهُ اسمها البَثَنِيّة وهيَ إحْدَى قُرَى حُورَان في أرض الشام بَينَ مَدينةِ دِمَشقَ وأَذْرِعَات في الأردنّ، وقَد ءاتاهُ اللهُ تَعالى الأملاكَ الواسِعَةَ والأراضِي الخِصْبَةَ والصِّحّةَ والمالَ وكَثرَةَ الأولاد، وكانَ علَيهِ السّلام شَاكِرًا لأنعُمِ الله، مُواسِيًا لعِبادِ الله، بَرًّا رَحِيمًا بالمسَاكِين يَكفُل الأيتام والأرامِلَ، ويُكرِمُ الضّيفَ ويَصِلُ المنقَطِعَ.
ثم إنّهُ وقَع في البَلاءِ الشّديدِ والعَناءِ العظِيم، وليسَ ذلكَ لأنّهُ هَيّنٌ على اللهِ، إنّما ابتِلاءٌ مِن ربِّه لهُ ليَعظُمَ ثَوابُه وأَجرُه، فقَد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَشّدُّ النّاسِ بَلاءً الأنبياءُ ثم الأمثَلُ فالأمثَل) رواه أحمد والنسائي والطبراني وغيرهم بألفاظ متقاربة، وهَكذا يَصيرُ النّاسُ إذَا ذَكَرُوا بَلاءَ أيّوبَ وصَبْرَهُ على مَرِّ السِّنِين مَع كَونِه أفضَلَ أهلِ زمَانِه عَوّدُوا أَنفُسَهُم على الصّبرِ علَى الشّدائدِ كمَا فعَلَ أيّوب إذْ إنّهُ ابتُلِيَ كمَا قِيلَ بأنْ جَاءت الشّياطينُ إلى أَموالِه فأَحْرَقَتْها وفتَكَت بأَغنَامِه وإبْلِه وعَبِيدِه وخَرّبَت أَراضِيْه، فلَمّا رأى أيّوبُ ما حَلّ بهِ لم يَعتَرِض على الله تعالى بَل قال (للهِ مَا أَعطَى وللهِ مَا أخَذَ فهوَ مَالِكُ المُلكِ ولهُ الحمدُ على كلِّ حَال) وعادَتِ الشّياطِينُ إلى أفَاعِيلِها وفسَادِها فتسَلّطَت على أولادِ أيوبَ الذينَ كانُوا في قَصرِ أَبِيهِم يَنعَمُونَ برِزقِ اللهِ تَعالى، فتَزلزَلَ القَصرُ بهم حتى تصَدَّعَت جُدرانُه ووقَعَت حِيطَانُه، وقُتِلُوا جميعًا ولم يَبقَ مِنهُم أحَدٌ، وبلَغَ أيّوب الخَبر فبَكَى لكنّه لم يُقابِل المصيبَةَ إلا بالصّبر.
امتَلأ إبليسُ وأَعوانُه غَيظًا مما صَدَر مِن أيوبَ علَيهِ السّلام مِن صَبرٍ وتَسلِيم لقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، وأُصِيبَ أَيّوبُ بأمراضٍ شَديدةٍ عدِيدةٍ، لكنّه لم يخرجْ مِنهُ الدّودُ كمَا يَذكُر بعضُ النّاس الجُهّال لأنّ خُروجَ الدّودِ منَ الأمراضِ المنفِّرةِ التي تُبعِدُ النّاسَ عنهُ واللهُ عصَمَ الأنبياءَ عن مِثلِ ذَلكَ، وإنما اشتَدَّ علَيهِ المرضُ والبلاءُ حتى جَافاهُ القَريبُ والبَعيدُ ومَن مَعه إلا القِلّةُ القَليلة، لكنّ زَوجتَه بقِيَت تَخدِمُه وتُحسِنُ إليهِ ذَاكِرةً فَضْلَهُ وإحسَانَهُ لها أيّامَ الرَّخَاءِ.
ثم طَالَت مُدّةُ هذِه العِلّة ولم يَبقَ لهُ شىءٌ مِنَ الأموال ألبَتّةَ، وامرأَتُه باعَت نِصفَ شعَرِها لبَناتِ الملُوكِ لأجلِ تحصِيلِ القُوت لأيّوب (1).
زَوجَتُه صَبَرت عليه وقَاسَت كَثِيرًا حتى إنّها مَرّةً باعَت قِسمًا مِن شعَرِها وكانَ جَميلا جِدّا، باعَتْه لبَعضِ بنَاتِ الملُوك، وهيَ مِن ذُرّيّة يوسُف بِنتُه أو بِنتُ بِنتِه، وبَعدَ أن باعَت شَعرَها اشترَتْ بهذا المالِ طَعامًا لسَيّدنا أيوبَ فاستَغربَ سيّدُنا أيوب لما وجَدَ هذا الطّعامَ وكان مَضى عليه زمانٌ لم يَذُق مِثلَه فأَخبرَتْه فحَلَف أن يَضربَها مائةَ سَوطٍ، لَمَّا عَلِمَ أنَّها فعلتْ هذا حلفَ ليَضْربنّها مائةَ ضَربة، اللهُ تَعالى أوحَى إليه قالَ له خُذْ ضِغْثًا أي مِن نَباتِ الأرض مائةً منَ الضّغْث واضربْهَا بها ضَربةً واحدَةً لِيَبَرَّ في قسَمِهِ في حَلفِهِ ففَعَل ذلكَ فانْحَلَّتْ اليَمِينُ بهذه الضَّربَةِ الواحِدَةِ، لأنَّه جمعَ المائةَ ثم ضَربَهَا صَارَ هذا الضَّربُ كأنَّه ضَربَهَا بكُلِّ واحِدَةٍ مَرّة.
قال في تاج العروس وقال أَبو حنيفة (الضِّغْثُ كُلُّ ما مَلأَ الكَفَّ من النّبَاتِ) وفي التنزيل العزيز (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بّهِ) (ضِغْثًا) ص 44 حُزْمَةً صَغِيرَةً مِن حَشِيش أو رَيْحَانٍ أو غَيرِ ذلكَ.
وعن ابنِ عبّاسٍ رضيَ الله عنهما قَبْضَةً مِنَ الشَّجَر (فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ) (ص 44) وكانَ حَلَفَ في مَرَضِه لَيَضرِبَنَّ امرأَتَه مِائةً إذَا برَأَ، فحَلَّلَ اللهُ يَمِينَهُ بأَهوَنِ شَىءٍ علَيه وعلَيهَا لحُسْنِ خِدمَتِها إيّاه، وهَذه الرُّخصَةُ باقِيَةٌ، والسّبَبُ في يَمِينِه أنّها أبْطَأت عليهِ ذَاهِبَةً في حَاجَةٍ فحَرَجَ صَدْرُه.
وقِيلَ بَاعَت ذُؤابَتَيْها برَغِيفَيْنِ وكَانَتَا مُتَعَلَّقَ أَيُّوبَ علَيهِ السّلامُ إذَا قَامَ (إِنَّا وَجَدْنَاهُ) (ص 44) علِمْنَاهُ (صَابِرًا) على البَلاءِ، نَعَم قَد شَكا إلى اللهِ مَا بهِ واسْتَرحَمَه لكنّ الشَّكْوَى إلى اللهِ لا تُسَمَّى جَزَعًا.
وكانَ يَزُورُه اثنانِ مِن المؤمنين فارتَدّ أحَدُهما وكفَر، فسَأل أيّوب عنهُ فقِيل له وسْوَسَ إليهِ الشّيطان أنّ الله لا يَبتَلي الأنبياء والصّالحين وأنّك لستَ نبِيّا فصدّقه، فحَزِنَ سيّدنا أيّوب لهذا الأمرِ وتأَلم لارْتِدادِ بَعضِهم عن الإسلام فدَعا الله أنْ يُعافِيَهُ ويُذهِبَ عنهُ البَلاء فلا يرتَدّ أحَد مِن المؤمنين بسبَبِ طُولِ بلائِه الذي استمر ثمانية عشَر عامًا.
رفَعَ الله تعالى عن نبِيّه أيوب عليه السّلام البلاءَ بعدَ مرُورِ ثمانيةَ عشَرَ عَامًا، كانَ فيها أيّوبُ صَابِرًا شَاكِرًا ذَاكِرًا معَ شِدّةِ بَلائِه، وأَوحَى إليهِ أن يَضربَ الأرضَ برِجْلِه فضَربها فنَبعَت عَينانِ شَرِبَ مِن واحِدةٍ فتَعافى باطنُه واغتَسلَ بالأخرَى فتَعافى ظَاهِرُه، وأَذهَب اللهُ عنهُ مَا كانَ يجِدُه مِنَ الألم والأذَى والسَّقَم والمرض، وأَبْدَلَهُ بَعدَ ذلكَ صِحّةً ظَاهرةً وباطنةً وجمالا تامًّا ولما اغتَسَل مِن هذا الماء المبارك أعَادَ اللهُ لحمَه وشعَرَهُ وبشَرَهُ على أَحسن مَا كان، وأَنزَل لهُ ثَوبين مِنَ السّماء أبيَضَين، الْتَحَف بأحدِهما مِن وسَطِه، ووضَع الآخَر على كتِفَيه ثم أَقْبَلَ يمشِي إلى مَنزِله، وأَبطَأ على زَوجَتِه حتى لَقِيَتْهُ مِن دونِ أن تَعرفَه فسَلَّمَت عليه وقالت يَرحَمُكَ الله، هل رأيتَ نَبيّ الله المبتَلَى وقَد كانَ أَشبَهَ النّاسِ بكَ حينَ كانَ صَحيحًا قَال أنَا هُوَ ورَدَّ الله إلى زَوجةِ سيِّدنا أيوبَ شَبابَها ونضَارَتها فولَدَت له سبعةً وعِشرينَ ذكَرًا عِوضًا عن الذينَ ماتُوا سابقًا، رَزقه اللهُ منَ الأولاد العدَد الذي كانَ لهُ ومثلَهُم معَهُم، وبعضُ العلَماء قالوا اللهُ أحْيا لهُ أولادَه ورزقَه مِثلَهُم معَهُم، وبعض العلماء قالوا أحيى له إولاده ورزقه مثلهم معهم، يقولُ عز من قائل (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) سورة الأنبياء، قيلَ أحيَاهُمُ اللهُ تَعالى بأَعْيَانِهم وزَادَهُ مِثلَهُم (رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَابِ) (ص 43) مفعولٌ لهما أي الهبَةُ كانَت للرّحمَةِ لهُ ولتَذكِيرِ أُولي الألباب، لأنّهم إذا سمِعُوا بما أنعَمْنَا بهِ علَيهِ لصَبرِه رَغّبَهُم ذلكَ في الصَّبْر على البَلاء، وأَقبَلَتْ سَحَابةٌ وصَبَّت في بَيدَرِ قَمحِه ذَهَبًا حتى امتَلأ، ثم أَقبَلَتْ سَحَابةٌ أُخرَى إلى بَيدَر شَعِيرِه وحبُوبِه فسَكَبت علَيهِ فِضّةً حتى امتَلأ، ثم حدَثَت لهُ مُعجِزةٌ أُخرَى إذْ أَرسَل الله تعالى سحَابةً على قَدرِ قَواعِد دارِه فأَمطَرت ثلاثةَ أيّامٍ بلَيالِيْهَا جَرادًا مِن ذهَب، وقَد رفَعَ اللهُ تَعالى عن أيوبَ الشِّدَّةَ وكَشَفَ ما بهِ مِن ضُرٍّ رَحمةً مِنهُ ورَأفَةً وإحسَانًا، وجعَلَ قِصّتَه ذِكرَى للعَابدِينَ، تُصَبِّرُ مَن ابتُلِيَ في جسَدِه أو مَالِه أو ولَدِه، فلَهُ أُسوةٌ بنَبيّ الله أيوبَ الذي ابتُلِيَ بما هو أعظَمُ مِن ذلكَ، فصَبَر واحتَسَب حتى فرَّجَ الله عنه.
وعاشَ أيّوبُ عليه السلام بعدَ ذلكَ سبعِينَ عامًا يَدعُو إلى دينِ الإسلام، ولما ماتَ غيّرَ الكُفّارُ الدِّينَ وعبَدُوا الأصنامَ والعياذُ بالله تعالى.
(1) لَا يَجُوْزُ أَنْ تَبِيْعَ الْمَرْأَةُ شَعَرَهَا، وَزَوْجَةُ أَيُّوْبَ لَمَّا بَاعَتْ شَعَرَهَا لِتَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ، حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مائَةَ ضَرْبَةٍ، هُوَ عَاقَبَهَا لِأَنَّها فَعَلَتْ ذلكَ، لما علم أيوب أن رحمة باعت شعرها غضب وحلف أن يضربها ولم يرد هل أكل من المال الذي جلبته من ذلك أم لا.