إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ قَامَ مِنْ النَّوْمِ وَالْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ يَسَعُ الصَّلَاةَ فَقَطْ أَوْ الْوُضُوءَ فَقَطْ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؟
مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ قَامَ مِنْ النَّوْمِ وَالْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ يَسَعُ الصَّلَاةَ فَقَطْ أَوْ الْوُضُوءَ فَقَطْ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؟
25 يونيو 2022
حديث (إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْر وَأَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يُضَحِّي فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا)
حديث (إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْر وَأَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يُضَحِّي فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا)
2 يوليو 2022
مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ قَامَ مِنْ النَّوْمِ وَالْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ يَسَعُ الصَّلَاةَ فَقَطْ أَوْ الْوُضُوءَ فَقَطْ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؟
مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ قَامَ مِنْ النَّوْمِ وَالْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ يَسَعُ الصَّلَاةَ فَقَطْ أَوْ الْوُضُوءَ فَقَطْ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؟
25 يونيو 2022
حديث (إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْر وَأَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يُضَحِّي فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا)
حديث (إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْر وَأَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يُضَحِّي فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا)
2 يوليو 2022

إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

اعْلَمْ أَنَّهُ لا دَلِيلَ حَقِيقِيٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ لِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلا مُجَرَّدُ قَصْدِ قَبْرِ وَلِيٍّ لِلتَّبَرُّكِ، وَلا مُجَرَّدُ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنِ النَّاسِ، وَلا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ.
قَالَ الأَزْهَرِيُّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ الْعِبَادَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، وَقَالَ مِثْلَهُ الْفَرَّاءُ كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَالَ بَعْضٌ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ شَارِحِ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيِّ خَاتِمَةِ اللُّغَوِيِّينَ، وَهَذَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا.
وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ (مَا هَذَا) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ [الْبِطْرِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الرُّومِ كَالْقَائِدِ مِنَ الْعَرَبِ] وَأَسَاقِفَتِهِمْ [عُلَمَاءُ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُمْ أَسَاقِفَةٌ] وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَالَ (لا تَفْعَلْ، لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرْتَ، وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِيِّ مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ، فالتَّوَسُّلُ هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَنْفَعَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ مَضَرَّةٍ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِ اسْمِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ إِكْرَامًا لِلْمُتَوَسَّلِ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيَنَا الثَّوَابَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُومَ بِالأَعْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/45] وَقَالَ ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/35] أَيْ كُلَّ شَىْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ اطْلُبُوهُ يَعْنِي هَذِهِ الأَسْبَابَ، اعْمَلُوا الأَسْبَابَ فَنُحَقِّقُ لَكُمُ الْمُسَبَّبَاتِ، نُحَقِّقُ لَكُمْ مَطَالِبَكُمْ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْقِيقِهَا بِدُونِ هَذِهِ الأَسْبَابِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَنَا لِتَحْقِيقِ مَطَالِبَ لَنَا التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ بِهِمْ رَجَاءَ تَحْقِيقِ مَطَالِبِنَا، فَنَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَاهِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتِي وَتُفَرِّجَ كَرْبِي، أَوْ نَقُولُ اللَّهُمَّ بِجَاهِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلانِيِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ الْوَهَّابِيَّةُ فَشَذُّوا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
فَالتَّوَسُّلُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ فِي حَالِ حَضْرَتِهِمْ وَفِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ، وَمُنَادَاتُهُمْ جَائِزَةٌ فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ وَفِي حَالِ حَضْرَتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَلَيْسَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُجَرَّدَ نِدَاءِ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ كَمَا قَالَتِ الْوَهَّابِيَّةُ بَلْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ بَلْ قَالَ إِمَامُ اللُّغَوِيِّينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْفَرَّاءُ الْعِبَادَةُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ وَبِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، أَيْ نُطِيعُكَ الطَّاعَةَ الَّتِي مَعَهَا الْخُضُوعُ، وَالْخُضُوعُ مَعْنَاهُ التَّذَلُّلُ.
وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالَّذِي فِيهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الأَعْمَى أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ فَذَهَبَ فَتَوَسَّلَ بِهِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ وَعَادَ إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ وَقَدْ أَبْصَرَ، وَكَانَ مِمَّا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي (وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ) لِتُقْضَى لِي) فَبِهَذَا الْحَدِيثِ بَطَلَ زَعْمُهُمْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، لِأَنَّ هَذَا الأَعْمَى لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ حِينَ تَوَسَّلَ بِرَسُولِ اللَّهِ بِدَلِيلِ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ قَالَ لَمَّا رَوَى حَدِيثَ الأَعْمَى (فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ) فَمِنْ قَوْلِهِ (حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا) عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ حِينَ تَوَسَّلَ بِرَسُولِ اللَّهِ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِرَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا هَذَا الدُّعَاءَ الَّذِي فِيهِ تَوَسُّلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فِي خِلافَتِهِ وَمَا كَانَ يَتَيَسَّرُ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ حَتَّى قَرَأَ هَذَا الدُّعَاءَ، فَتَيَسَّرَ أَمْرُهُ بِسُرْعَةٍ وَقَضَى لَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ حَاجَتَهُ.

فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ أَنَّ الرَّسُولَ يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ [وَقَوْلُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَالِكَ الدَّارِ مَجْهُولٌ يَرُدُّهُ أَنَّ عُمَرَ لا يَتَّخِذُ خَازِنًا إِلَّا خَازِنًا ثِقَةً، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا صَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَغْوٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ لِهَذَا الْمَدَّعِي لا كَلامَ لَكَ بَعْدَ تَصْحِيحِ أَهْلِ الْحِفْظِ أَنْتَ لَيْسَ لَكَ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَقٌّ، عَلَى أَنَّ التَّصْحِيحَ وَالتَّضْعِيفَ خَاصٌّ بِالْحَافِظِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ نَفْسَكَ أَنَّكَ بَعِيدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُعْدَ الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ اسْتِغَاثَةٌ وَتَوَسُّلٌ، وَبِهَذَا الأَثَرِ يَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ شِرْكٌ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِنَّ التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالتَّوَجُّهَ وَالتَّجَوُّهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ شِفَاءُ السَّقَامِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي إِنْكَارِهِ سُنِّيَّةَ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَتَحْرِيمِهِ قَصْرَ الصَّلاةِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ] قَالَ أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ [أَيْ وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ، تِسْعَةَ أَشْهُرٍ انْقَطَعَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ] فِي زَمَانِ عُمَرَ [أَيْ فِي خِلافَتِهِ] فَجَاءَ رَجُلٌ [أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ] إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا [مَعْنَاهُ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَطَرَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا] فَأُتِيَ الرَّجُلُ فِي الْمَنَامِ [أَيْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُكَلِّمُهُ] فَقِيلَ لَهُ أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ [أَيْ سَلِّمْ لِي عَلَيْهِ] وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ [أَيْ سَيَأْتِيهِمُ الْمَطَرُ، ثُمَّ سَقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الأَعْشَابِ وَسَمِنَتِ الْمَوَاشِي حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ]، وَقُلْ لَهُ عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ [أَيْ عَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ بِالسَّعْيِ فِي خِدْمَةِ الأُمَّةِ] فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَا يَا رَبِّ مَا ءَالُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ [أَيْ لا أُقَصِّرُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ، أَيْ سَأَفْعَلُ مَا فِي وُسْعِي لِخِدْمَةِ الأُمَّةِ] وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ، فَهَذَا الصَّحَابِيُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُوسَى قَالَ (رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ) وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا. اهـ

وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ حَدَّثَنِي سَالِمُ التَّلِّ قَالَ (مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ، وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِيِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ نَعَمْ، فَقُلْتُ قُلْ لِي شَيْئًا، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ، فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ، فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ، فَقُلْتُ أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا، فَقَالَ تَكُونُ غَيْرُ هَذِهِ، فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِي أَرْبَعَةَ أَوْلادٍ). انْتَهَى

مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُطَهِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنَ الْكُفَّارِ لَمَّا كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا بَلْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَقَدْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، قَالَ يَا رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَوْ مِقْدَارَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ، فَلَمَّا جَاءَ أَجَلُهُ قَرَّبَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ جَعَلَ وَفَاتَهُ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ تَبْدَأُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي بَعْدَ أَرِيحَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَبْرُ مُوسَى قَبْلَ جَبَلِ الْقُدْسِ، يُوجَدُ هُنَاكَ بِأَرِيحَا مَقَامٌ كَبِيرٌ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، بَابٌ شَرْقِيٌّ وَبَابٌ غَرْبِيٌّ وَبَابٌ شِمَالِيٌّ وَبَابٌ جَنُوبِيٌّ بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ يَأْوِي إِلَيْهِ الزُّوَّارُ.

فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ قَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ (وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ) وَالَّذِي هُوَ قُرْبَ أَرِيحَا الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ مَطْلُوبَةٌ وَعَلَى هَذَا كَانَ الأَكَابِرُ وَعَلَى ذَلِكَ نَصُّوا، وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْمِدَةِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ قَوْلُهُ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ لِنَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/64]، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُ نَبِيَّكَ تَائِبًا مُسْتَغْفِرًا فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُوجِبَ لِيَ الْمَغْفِرَةَ كَمَا أَوْجَبْتَهَا لِمَنْ أَتَاهُ فِي حَيَاتِهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي لِيَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي)، فَبَعْدَ هَذَا كَيْفَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ إِنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ زِيَارَةٌ شِرْكِيَّةٌ، فَمَا أَبْعَدَ هَؤُلاءِ عَنِ الْحَقِّ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَاسْمُهُ الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ بنُ الْمُلَقِّنِ هَذَا تُوُفِّيَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ ذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ طَبَقَاتِ الأَوْلِيَاءِ وَهُوَ كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ تَرَاجِمَ أَوْلِيَاءَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَقَالَ (ذَهَبْتُ إِلَى قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَقَفْتُ وَدَعَوْتُ اللَّهَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَالأَمْرُ الَّذِي كَانَ يَصْعُبُ عَلَيَّ يَنْقَضِي لَمَّا أَدْعُو اللَّهَ هُنَاكَ عِنْدَ قَبْرِهِ) هَذَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ مِنَ الأَوْلِيَاءِ الْبَارِزِينَ الْمَشْهُورِينَ فِي بَغْدَادَ، مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يَقْصِدُونَ قَبْرَهُ لِلتَّبَرُّكِ.

وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلَّالِ أَنَّهُ قَالَ (مَا هَمَّنِي أَمْرٌ فَقَصَدْتُ قَبْرَ مُوسَى بنِ جَعْفَرٍ فَتَوَسَّلْتُ بِهِ إِلَّا سَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِي مَا أُحِبُّ). اهـ
وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّلَفِ مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ وَكَانَ حَافِظًا فَقِيهًا مُجْتَهِدًا يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يُرْسِلُ ابْنَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ أَنَّهُ قَالَ (قَبْرُ مَعْرُوفٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ) وَالتِّرْيَاقُ هُوَ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الأَطِبَاءِ الْقُدَامَى مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ، شَبَّهَ الْحَرْبِيُّ قَبْرَ مَعْرُوفٍ بِالتِّرْيَاقِ فِي كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ فَكَأَنَّ الْحَرْبِيَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اقْصِدُوا قَبْرَ مَعْرُوفٍ تَبَرُّكًا بِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ.

وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ (قَبْرُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ مُجَرَّبٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ مَنْ قَرَأَ عِنْدَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص/1] وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى مَا يُرِيدُ قَضَى اللَّهُ لَهُ حَاجَتَهُ).
وَذَكَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ (أَعْرِفُ قَبْرَ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، مَا قَصَدَهُ مَهْمُومٌ إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ هَمَّهُ).
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (إِنِّي لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَجِيءُ إِلَى قَبْرِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ( يَعْنِي زَائِرًا) فَإِذَا عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَجِئْتُ إِلَى قَبْرِهِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ تَعَالَى الْحَاجَةَ عِنْدَهُ فَمَا تَبْعُدُ عَنِّي حَتَّى تُقْضَى).
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْجَزَرِيُّ وَهُوَ شَيْخُ الْقُرَّاءِ وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابٍ لَهُ يُسَمَّى الْحِصْنَ الْحَصِينَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ (مِنْ مَوَاضِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ قُبُورُ الصَّالِحِينَ). اهـ، وَهَذَا الْحَافِظُ جَاءَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ بِنَحْوِ مِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الشَّاذِّينَ الَّذِينَ لَحِقُوا نُفَاةَ التَّوَسُّلِ مِنْ أَتْبَاعِ ابْنِ تَيْمِيَةَ.

وَنَخْتِمُ هَذَا الْمَقَالَ بِقَوْلِ الإِمَامِ مَالِكٍ لِلْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ لَمَّا حَجَّ فَزَارَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ مَالِكًا قَائِلًا (يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعَهُ اللَّهُ) ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَا.

فَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا تَحْوِيهِ كُتُبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ مِنْ قَصْدِ الْمُسْلِمِينَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَوْ تُتُبِّعَ مَا فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْحَدِيثِ وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَالزُّهَّادِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَجَاءَ مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةً، فَكَيْفَ تَجَرَّأَ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَتَكْفِيرِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ كَيْفَ تَجَرَّأَ عَلَى دَعْوَى أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ قَالَ هَذَا مَا أَرَاهُ وَأَعْتَقِدُهُ لَكَانَ ذَلِكَ إِبْدَاءَ رَأْيِهِ الْخَاصِّ لَكِنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ تَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَمَا أَعْظَمَ مَا تَرَتَّبَ مِنْ كَلامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذَا مِنْ تَكْفِيرِ أَتْبَاعِهِ الْوَهَّابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَوْلِيَاءَ أَسْبَابٌ فَقَطْ لا يَخْلُقُونَ مَنْفَعَةً وَلا مَضَرَّةً، فَكُلُّ إِثْمِ تَكْفِيرِ هَؤُلاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فِي صَحَائِفِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ هَذَا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ) وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

وَمِنْ عَجَائِبِ تَكْفِيرِ الْوَهَّابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ مَا حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ ذَاكِر قَالَ كُنْتُ فِي نَاحِيَةِ بَنِي غَامِدٍ فِي الْحِجَازِ جَالِسًا تَحْتَ شَجَرَةٍ أَدْعُو اللَّهَ رَافِعًا يَدَيَّ فَأَقْبَلَ إِلَيَّ وَاحِدٌ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ لِمَ تَعْبُدُ الشَّجَرَةَ، وَهَذَا الإِنْكَارُ مِنْهُ وَتَكْفِيرُهُ لَهُ نَاشِئٌ مِنْ مُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِ بِالرَّجُلِ كَفَّرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي بَلَدٍ مِنْ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي نَجْدِ الْحِجَازِ، ثُمَّ ازْدَادَ أَتْبَاعُهُ غُلُوًّا وَلا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ غُلُوًّا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ.
الْحَارِثُ بنُ حَسَّانٍ الْبَكْرِيُّ قَالَ (خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلاءَ بنَ الْحَضْرَمِيَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ بِالرَّبْذَةِ فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطَعٌ بِهَا، فَقَالَتْ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً فَهَلَّا أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ، قَالَ فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ وَبِلالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ، قَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ وَجْهًا، قَالَ فَجَلَسْتُ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ أَوْ قَالَ رَحْلَهُ، قَالَ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ (هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ شَىْءٌ)، قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ، قَالَ وَكَانَتْ لَنَا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطَعٍ بِهَا فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ وَهَا هِيَ بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ حَاجزًا فَاجْعَلِ الدَّهْنَاءَ، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِلَى أَيْنَ تَضْطَّرُ مُضَرُكَ، قَالَ قُلْتُ إِنَّمَا مَثَلِي مَا قَالَ الأَوَّلُ مَعْزَاءُ حَمَلَتْ حَتْفَهَا، حَمَلْتُ هَذِهِ وَلا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ (هِيهْ وَمَا وَافِدُ عَادٍ) وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ، قُلْتُ إِنَّ عَادًا قُحِطُوا (أَيِ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ) فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قِيل، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بنِ بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ خَمْرًا وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ – يَطْلُبُ الْمَطَرَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ هَؤُلاءِ كَانُوا مَعَ شَرْكِهِمْ يُعَظِّمُونَ مَكَّةَ (فَنَادَى اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِىءْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ وَلا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ) وَالْغَالِبُ أَنَّ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ الْمَطَرَ، فَرِحَ فَقَالَ الآنَ يَنْزِلُ الْمَطَر (فَنُودِيَ مِنْهَا) أَيْ نَادَاهُ الْمَلَكُ قَائِلًا اخْتَرْ، فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا لا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، قَالَ فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرُ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا حَتَّى هَلَكُوا، قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَصَدَقَ، قَالَ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا لا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ). اهـ

وَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقُلْ لِلْحَارِثِ أَشْرَكْتَ لِقَوْلِكَ (وَرَسُولِهِ)، حَيْثُ اسْتَعَذْتَ بِي وَقَدْ جَمَعَ الْحَارِثُ الِاسْتِعَاذَةَ بِالرَّسُولِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَمُسْتَعَاذٌ بِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ، فَتَبَيَّنَ لِلْحَارِثِ أَنَّ حَاجَتَهَا مِثْلُ حَاجَتِهِ، هُوَ جَاءَ لِيَطْلُبَ مِنَ الرَّسُولِ أَرْضًا مِنَ الأَرَاضِي وَهِيَ نَفْسُ الشَّىْءِ كَانَ فِي قَلْبِهَا أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الرَّسُولِ، فَلَمَّا أَوْصَلَهَا إِلَى الرَّسُولِ فَإِذَا بِهَا تَذْكُرُ لِلرَّسُولِ مَا عِنْدَهَا مَا كَانَ فِي ضَمِيرِهَا أَيْ فِي قَلْبِهَا، فَقَالَ الصَّحَابِيُّ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، يَعْنِي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ خَائِبًا فِي أَمَلِي الَّذِي أَمَّلْتُهُ، مَعْنَاهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَنِي إِلَى مَا هُوَ حَاجَتِي.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا اسْتِعَاذَةٌ بِالرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ فِي حَضْرَتِهِ وَنَحْنُ لا نُنْكِرُ هَذَا إِنَّمَا نُنْكِرُ الِاسْتِعَاذَةَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قُلْنَا الِاسْتِعَاذَةُ مَعْنًى وَاحِدٌ إِنْ كَانَ طَلَبُهَا مِنْ حَيٍّ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَبُهَا مِنَ الْحَاضِرِ جَائِزًا وَمِنَ الْغَائِبِ شِرْكًا هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِنِ اسْتَعَاذَ بِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَإِنَّهُ يَرَى الْمُسْتَعَاذَ بِهِ سَبَبًا أَيْ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْمُسْتَعِيذَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَيْ إِنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ حَيًّا حَاضِرًا أَوْ مَيِّتًا غَائِبًا، فَلا الْحَيُّ الْحَاضِرُ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ خَالِقٌ لِلإِعَاذَةِ وَلا الْمَيِّتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾، وَأَيْنَ مَعْنَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي هَذَا أَلَيْسَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لُغَةً وَشَرْعًا نِهَايَةَ التَّذَلُّلِ يَا مُكَفِّرِينَ لِأُمَّةِ الْهُدَى بِلا سَبَبٍ، افْهَمُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثُمَّ تَكَلَّمُوا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ)، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دِلالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَصَابَ أَحَدَنَا مُشْكِلَةٌ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ أَيْ بَرِّيَّةٍ (يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا) فَإِنَّ هَذَا يَنْفَعُهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الأَمَالِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سِوَى الْحَفَظَةِ سَيَّاحِينَ فِي الْفَلاةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ فِي فَلاةٍ فَلْيُنَادِ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا)، اللَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِأَنْ يَكْتُبُوا مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فِي الْبَرِّيَّةِ نِدَاءَ هَذَا الشَّخْصِ لَوْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْهُمْ، الْمَلِكُ الْحَيُّ الْحَاضِرُ إِذَا اسْتُغِيثَ بِهِ: يَا مَلِكَنَا ظَلَمَنِي فُلانٌ أَنْقِذْنِي، يَا مَلِكَنَا أَصَابَنِي مَجَاعَةٌ فَأَنْقِذْنِي، هَذَا الْمَلِكُ لا يُغِيثُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةُ لا يُغِيثُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ الأَوْلِيَاءُ وَالأَنْبِيَاءُ إِذَا إِنْسَانٌ اسْتَغَاثَ بِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ يُغِيثُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذًا هَؤُلاءِ سَبَبٌ، وَكِلا الأَمْرَيْنِ جَائِزٌ.

أَمَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ فَيَقُولُ قَوْلُ أَغِثْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ شِرْكٌ إِنْ كَانَ فِي غِيَابِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، عِنْدَهُ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَالْوَهَّابِيَّةُ لِمَ تَسْتَغِيثُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، اللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَى وَاسِطَةٍ، فَيُقَالُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: كَذَلِكَ الْمَلِكُ اللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِيُغِيثَكَ وَكَذَلِكَ الْمَلائِكَةُ اللَّهُ لا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ لِيُغِيثُوكَ، فَمَا أَبْعَدَ ابْنَ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعَهُ عَنِ الْحَقِّ حَيْثُ إِنَّهُمْ وَضَعُوا شُرُوطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. هَذَا وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ تَيْمِيَةَ ثَبَتَ عَنْهُ أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ الْمَذْكُورَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ تَحْرِيمُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ الْحَيِّ الْحَاضِرِ، وَصَرَّحَ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ بِاسْتِحْسَانِ أَنَّ يَقُولَ مَنْ أَصَابَهُ خَدَرٌ فِي رِجْلِهِ (يَا مُحَمَّدُ)، وَكِتَابُهُ هَذَا الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ثَابِتٌ أَنَّهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ فَمَا أَثْبَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ مُوَافِقٌ لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَأَمَّا مُشَبِّهَةُ الْعَصْرِ الْوَهَّابِيَّةُ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ يَا مُحَمَّدُ شِرْكٌ وَكُفْرٌ. وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي عَقَدَ فِيهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَصْلًا لِاسْتِحْبَابِ أَنْ يَقُولَ مَنْ أَصَابَهُ الْخَدَرُ يَا مُحَمَّدُ ثَابِتٌ عَنْهُ تُوجَدُ مِنْهُ نُسَخٌ خَطِّيَّةٌ وَنُسَخٌ مَطْبُوعَةٌ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِصِحَّةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ زَعِيمُ الْوَهَّابِيَّةِ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِيُّ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مُقَدِّمَةِ النُّسْخَةِ الَّتِي طَبَعَهَا الْوَهَّابِيُّ تِلْمِيذُ الأَلْبَانِيِّ زُهَيْرُ الشَّاوِيش، فَهُمْ وَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ لَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالُ (هَذَا ابْنُ تَيْمِيَةَ قَالَ فِي كِتَابِهِ هَذَا فَصْلٌ فِي الرِّجْلِ إِذَا خَدِرَتْ وَأَوْرَدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَقِيلَ لَهُ اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فَاسْتَقَامَتْ رِجْلُهُ كَأَنَّهُ نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، هَذَا فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عِنْدَكُمْ وَقَائِلُ هَذَا زَعِيمُكُمُ الَّذِي أَخَذْتُمْ مِنْهُ أَكْثَرَ عَقَائِدِكُمْ، فَمَاذَا تَقُولُونَ كَفَرَ لِهَذَا أَمْ لَمْ يَكْفُرْ، فَإِنْ قُلْتُمْ كَفَرَ لِهَذَا وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ شَيْخَ الإِسْلامِ فَهَذَا تَنَاقُضٌ تُكَفِّرُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ شَيْخَ الإِسْلامِ وَإِنْ قُلْتُمْ لَمْ يَكْفُرْ نَقَضْتُمْ عَقِيدَتَكُمْ تَكُونُونَ قُلْتُمْ قَوْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتِغَاثَةً بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ تُكَفِّرُوهُ جِهَارًا فَإِنَّكُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا شِرْكٌ فَلِمَاذَا لا تَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. وَالآنَ وَقَدْ وَضَحَ لَكُمُ الأَمْرُ لَكِنَّكُمْ لا تَزَالُونَ تُخَالِفُونَهُ فِيمَا وَافَقَ فِيهِ الْحَقَّ وَتَتْبَعُونَهُ فِيمَا ضَلَّ وَزَاغَ فِيهِ وَهَلْ لَكُمْ مُسْتَنَدٌ لِتَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ الْحَيِّ الْحَاضِرِ سِوَى مَا أَخَذْتُمْ مِنْ كُتُبِهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ، وَهُوَ أَمْرٌ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ فِي تَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ بَعْدَ الْوَفَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ فِي الْحَيَاةِ وَظَهَرَ وَثَبَتَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مَعَ السَّلَفِ وَلا مَعَ الْخَلَفِ)، هَؤُلاءِ السَّلَفُ كُتُبُهُمْ تَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ بِالتَّوَسُّلِ بِهِمْ وَبِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَلَّفُوا مِنَ السَّلَفِ وَذَكَرُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ هَذَا الأَثَرَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لَمَّا خَدِرَتْ رِجْلُهُ يَا مُحَمَّدُ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَ السَّلَفِ كَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ صَاحِبِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَيْ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَالْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِهِ الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَهذَا الأَثَرُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ إِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٍ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَكِنَّ هَؤُلاءِ أَوْرَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ مُسْتَحْسِنِينَ لِيَعْمَلَ النَّاسُ بِهِ فَمَاذَا تَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ هَلْ تَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَرَكُوا لِلنَّاسِ مَا فِيهِ شِرْكٌ فِي تَآلِيفِهِمْ وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ الْخَلَفِ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ ذَكَرُوا هَذَا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ فَأَنْتُمْ تَكُونُونَ كَفَّرْتُمُ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ فَمَنِ الْمُسْلِمُ عَلَى زَعْمِكُمْ إِنْ كَانَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كُفَّارًا عَلَى مُوجَبِ كَلامِكُمْ، وَهَذَا الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ الَّذِي تَعْتَزُّونَ بِهِ أَجَازَ تَقْبِيلَ قَبْرِ النَّبِيِّ وَمَسَّهُ لِلتَّبَرُّكِ وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ) رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ يَنْفَعُ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلافًا لِلْوَهَّابِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لا يَنْفَعُ أَحَدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لَمَّا قَالَ (وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ) أَفْهَمَنَا أَنَّهُ يَنْفَعُنَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَيْضًا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا نَفَعَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِكَ؟، فَقَالَ لَهُ (خَمْسِينَ صَلاةً)، قَالَ ارْجِعْ وَسَلِ التَّخْفِيفَ فَإِنِّي جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ صَلاتَانِ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِمَا، فَرَجَعَ فَطَلَبَ التَّخْفِيفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ لَهُ ارْجِعْ فَسَلِ التَّخْفِيفَ، إِلَى أَنْ صَارُوا خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِأَجْرِ خَمْسِينَ، فَهَلْ يَشُكُّ عَاقِلٌ بِنَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ هَذَا النَّفْعَ الْعَظِيمَ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى تُوُفِّيَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، فَهَذَا عَمَلٌ بَعْدَ الْمَوْتِ نَفَعَ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ) فَمَعْنَاهُ يَحْصُلُ مِنْكُمْ أُمُورٌ ثُمَّ يَأْتِي الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ.
ثُمَّ يُؤَكِّدُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ نَفْعَهُ لِأُمَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِقَوْلِهِ (وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي السَّمَاءِ دَعَا لِلرَّسُولِ بِخَيْرٍ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ ءَادَمُ فِي الأُولَى وَعِيسَى وَيَحْيَى فِي الثَّانِيَةِ وَيُوسُفُ فِي الثَّالِثَةِ وَإِدْرِيسُ فِي الرَّابِعَةِ وَهَارُونُ فِي الْخَامِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمُ فِي السَّابِعَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَفْعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُ الْوَهَّابِيَّةِ بِالِاسْتِدْلالِ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ (إِذَا مَاتَ ابْنُ ءَادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ) فَإِنَّهُ بِزَعْمِهِمْ يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِمْ، يُقَالُ لَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ (انْقَطَعَ عَمَلُهُ) أَيِ الْعَمَلُ التَّكْلِيفِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ نَفْعِ التَّوَسُّلِ بِهِمْ بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلافِ دَعْوَاهُمْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ أَنَّ دَعْوَةَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ تَنْفَعُ أَبَاهُ وَلَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ دُعَاءُ غَيْرِ وَلَدِهِ الصَّالِحِ لِلْمَيِّتِ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ (أَيْ يَتَرَدَّدُ) إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى لِي، ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ، ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى طِنْفِسَتِهِ (أَيْ سَجَّادَتِهِ) فَقَالَ مَا حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ، فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَيَّ ذَهَابُ بَصَرِي وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ فَقَالَ لَهُ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كُلٍّ مِنْ مُعْجَمَيْهِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ، مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِي الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ.

فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ (حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ)، وَفِيهِ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ جَائِزٌ فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ.
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دِلالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فِي حَضْرَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ لَيْسَ التَّوَسُّلُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ تَوَسُّلًا بِذَاتِ النَّبِيِّ بَلْ بِدُعَائِهِ فَهُوَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ التَّوَسُّلَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّبَرُّكِ، الرَّسُولُ ذَاتُهُ مُبَارَكَةٌ وَءَاثَارُهُ أَيْ شَعْرُهُ وَقُلامَةُ ظُفْرِهِ وَالْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ وَنُخَامَتُهُ وَرِيقُهُ مُبَارَكٌ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ فَكَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذَا يُنَادِي بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحَقِيقَةَ بَلْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلأُصُولِ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ لا يُسَوِّغُونَ التَّأْوِيلَ إِلَّا لِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ، وَكَلامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ فَالْحَدِيثُ عِنْدَهُ يُقَدَّرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى مُوجَبِ دَعْوَاهُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا وَكَذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي يَلْزَمُ مِنْهُ التَّقْدِيرُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِدُعَائِكَ إِلَى رَبِّي، وَالأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْدِيرُ لا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ وَهَذَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُصُولِ فَابْنُ تَيْمِيَةَ حُبِّبَ إِلَيْهِ الشُّذُوذُ وَخَرْقُ الإِجْمَاعِ مِنْ شِدَّةِ إِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ فَرْطِ إِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ ذُكِرَتْ مَسْئَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ عِنْدَهُ فَقِيلَ لَهُ هَكَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ يَكْذِبُ، وَمَنِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي النَّحْوِ حَتَّى يُكَذِّبَ إِمَامَ النَّحْوِ لِأَنَّهُ خَالَفَ رَأْيَهُ، وَهَذَا خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِتَخْطِئَةِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْئَلَةً، فَلِهَذَا انْحَرَفَ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ النَّحْوِيُّ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُحِبُّهُ وَقَدِ امْتَدَحَهُ بِقَصِيدَةٍ ثُمَّ لَمَّا رَأَى مِنْهُ تَكْذِيبَ سِيبَوَيْهِ وَرَأَى كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ كِتَابَ الْعَرْشِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ قَاعِدٌ عَلَى الْكُرْسِيِّ وَأَنَّهُ أَخْلَى مَوْضِعًا لِلرَّسُولِ لِيُقْعِدَهُ فِيهِ زَادَتْ كَرَاهِيَتُهُ لَهُ فَصَارَ يَلْعَنُهُ حَتَّى مَاتَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ إِمَامٌ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ وَالتَّفْسِيرِ وَلَهُ سَمَاعٌ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَصَفَ الذَّهَبِيُّ ابْنَ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ بَيَانُ زَغَلِ الْعِلْمِ وَالطَّلَبِ بِأَنَّهُ أَهْلَكَهُ فَرْطُ الْغَرَامِ فِي رِئَاسَةِ الْمَشْيَخَةِ وَالِازْدِرَاءُ بِالأَكَابِرِ وَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ صَحِيحٌ لِأَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ انْتَقَصَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا بِقَوْلِهِ إِنَّ حُرُوبَهُ مَا نَفَعَتِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ ضَرَّتْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَبِقَوْلِهِ إِنَّ الْقِتَالَ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلا مُسْتَحَبٍّ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/59] وَعَلِيٌّ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الآيَةِ وَقَالَ ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/9] بَلْ عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنِ امْتَثَلَ الأَمْرَ الَّذِي فِي هَذِهِ الآيَةِ فَقَاتَلَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ وَكَلِمَةُ قَاتِلُوا تُعْطِي أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ قَاتِلُوا الْبُغَاةَ مَعَ عَلِيٍّ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا مُصِيبٌ فِي حُرُوبِهِ الثَّلاثَةِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَوَقْعَةِ صِفِّينَ وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ (إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ)، فَقِيلَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ (خَاصِفُ النَّعْلِ)، وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْوِيبُ قِتَالِ عَلِيٍّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَحَدِيثُ أَبِي يَعْلَى وَالْبَزَّارِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ اهـ.

وَرِسَالَةُ الذَّهَبِيِّ بَيَانُ زَغَلِ الْعِلْمِ وَالطَّلَبِ صَحِيحَةُ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْحَافِظَ السَّخَاوِيَّ نَسَبَهَا لِلذَّهَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الإِعْلانُ بِالتَّوْبِيخِ لِمَنْ ذَمَّ التَّارِيخَ وَنَقَلَ فِيهِ بَعْضَ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِهِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ بِأَنَّ فَرْطَ الْغَرَامِ فِي رِئَاسَةِ الْمَشْيَخَةِ وَالِازْدِرَاءَ بِالأَكَابِرِ أَهْلَكَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْفَلْسَفَةِ فَصَارَ مُظْلِمًا مَكْسُوفًا، وَالْمَفْتُونُونَ بِهِ لا يَذْكُرُونَ عَنِ الذَّهَبِيِّ فِي أَمْرِ ابْنِ تَيْمِيَةَ إِلَّا مَا وَصَفَهُ بِهِ فِي تَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ وَكَأَنَّ السُّنَّةَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَلا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ يَنْفِي صِحَّتَهَا وَنِسْبَتَهَا إِلَى الذَّهَبِيِّ بِلا دَلِيلٍ بَلْ لِيُرْضِيَ أَتْبَاعَ ابْنِ تَيْمِيَةِ الْوَهَّابِيَّةَ لِأَجْلِ الْمَالِ.

وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِي رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي فِيهِ اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي، فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ، بَلِ التَّبَرُّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالَ الْيَتَامَى [أَيْ غِيَاثَهُمْ] عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ

أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَمَّا تَوَسُّلُ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ مَاتَ، بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ حِينَ قَدَّمَهُ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ [أَيْ لِمَكَانَتِي عِنْدَهُ]، فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ، رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ، فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ، فَهَذَا يُوضِحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ.

يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ كَانَ لِرِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرْكُ عُمَرَ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ فِيهِ دِلالَةٌ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ الْحَيِّ الْحَاضِرِ، فَقَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَهَلْ دَلَّ تَرْكُهُ لَهَا عَلَى حُرْمَتِهَا؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ الأُصُولِ أَنَّ تَرْكَ الشَّىْءِ لا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ، وَقَدْ أَرَادَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَقِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا نَصُّهُ (يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ). اهـ.

فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخِطْمِيُّ ثِقَةٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِيُّ أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِيِّ بِقَوْلِهِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ الْقَدْرُ الأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ، أَيْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ يُسَمَّى حَدِيثًا، وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِيِّ فَقَطْ فِي اصْطِلاحِهِمْ، وَهَذَا الْمُمَوِّهُ كَلامُهُ لا يُوَافِقُ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِي وَالإِفْصَاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ، فَإِنَّ الأَلْبَانِيَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ.

وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيُّ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي، وَابْنُ الصَّلاحِ فِي مُقَدِّمَتِهِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ.

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ. نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ)، فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَإِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِيِّ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِي الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِيُّ، كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

الْمُتَوَسِّلُ الْقَائِلُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ أَوْ بِأَبِي بَكْرٍ أَوْ بِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ سَأَلَ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ فَأَيْنَ الْحَدِيثُ وَأَيْنَ دَعْوَاهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ أَدَاةُ نَهْيٍ لَمْ يَقُلِ الرَّسُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَلَيْسَ كُلُّ أَدَاةِ نَهْيٍ لِلتَّحْرِيمِ كَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ (لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ)، فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ وُجُودِ أَدَاةِ النَّهْيِ فِيهِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ أَنْ يُطْعِمَ الرَّجُلُ غَيْرَ تَقِيٍّ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الأَوْلَى أَنْ تُطْعِمَ طَعَامَكَ التَّقِيَّ، فَكَيْفَ تَجَرَّأَتِ الْوَهَّابِيَّةُ عَلَى الِاسْتِدْلالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّكْفِيرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَتَهُمْ لا يَجْعَلُ لِكَلامِهِمْ وَزْنًا، كَيْفَ يُجْعَلُ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ وَزْنٌ وَهُمْ يُكَفِّرُونَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَأْتِي لِيُسَلِّمَ عَلَى الرَّسُولِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَدْعُو اللَّهَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَبْرِ الشَّرِيفِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ هَذَا شِرْكًا وَلا سِيَّمَا إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الشَّبِيكَةِ يَجْعَلُونَ هَذَا الشِّرْكَ الأَكْبَرَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ فَاعِلُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ مَعَ الزَّائِرِينَ.

وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الَّذِينَ مُعْتَقَدُهُمْ هَذَا مَاذَا يَقُولُونَ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى قَبْرِ الرَّسُولِ فَوَضَعَ وَجْهَهُ عَلَيْهِ لِلتَّبَرُّكِ وَهَذَا لا شَكَّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ أَبُو أَيُّوبٍ أَشْرَكَ بِاللَّهِ لِذَلِكَ وَلا يَخْطُرُ هَذَا بِبَالِ مُسْلِمٍ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ بَلْ وَلا مِنَ الْخَلَفِ، فَإِذَا كَانَ وَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى قَبْرِ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ لا يُعَدُّ شِرْكًا فَكَيْفَ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الشَّبِيكَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَبَيْنَ الزَّائِرِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ إِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ الأَوْلَى بِأَنْ تَسْأَلَهُ وَتَسْتَعِينَ بِهِ اللَّهُ.

وَلا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، فَالتَّوَسُّلُ يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْحَدِيثَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رُوِيَ بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَسَمَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً.
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ يَأْتِي بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ (يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا) وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ التَّوَسُّلَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكًا. الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالتَّوَجُّهُ وَالتَّجَوُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شِفَاءِ السَّقَامِ: الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ وَالتَّجَوُّهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالتَّقِيُّ السُّبْكِيُّ مُحَدِّثٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ لُغَوِيٌّ كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي الذَّيْلِ.

ثُمَّ الرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ (اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ)، فَالرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ النَّبِيُّ وَالْوَلِيُّ يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
بَقِيَ لَنَا أَنْ نَذْكُرَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَنَّ رَبِيعَةَ بنَ كَعْبٍ الأَسْلَمِيَّ الَّذِي خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ بَابِ حُبِّ الْمُكَافَأَةِ (سَلْنِي) فَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ بَلْ قَالَ لَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) فَقَالَ الصَّحَابِيُّ هُوَ ذَاكَ، فَقَالَ لَهُ (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) وَكَذَلِكَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ طَلَبَتْ مِنْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ، فَمِنْ أَيْنَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعِهِ أَنْ يَبْنُوا قَاعِدَةً وَهِيَ قَوْلُهُمْ (طَلَبُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ).

1 Comment

  1. يقول AdminMK:

    إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *