حَدِيثُ (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ.

مَعْنَى يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ يَكُونُ مُسْتَعِدًّا مُتَهَيِّئًا لِقَبُولِ دِينِ الإِسْلامِ، عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلامِ لِأَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ الَّذِي حَصَلَ يَوْمَ أُخْرِجَتِ الأَرْوَاحُ مِنْ ظَهْرِ ءَادَمَ بِنَعْمَانِ الأَرَاكِ فَإِنَّهُمْ سُئِلُوا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى لا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ، اعْتَرَفُوا كُلُّهُمْ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جَسَدِ الْوَلَدِ نَسِيَ هَذَا وَيَبْقَى نَاسِيًا إِلَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا الإِسْلامَ فَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يَسْمَعَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا الْكُفْرَ فَيَعْتَقِدَهُ فَيَكُونُ الآنَ كَفَرَ بِالْفِعْلِ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَعْرِفُ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ الإِسْلامَ تَفْصِيلًا فَإِنَّهُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ مَنْ بَطْنِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ شَيْئًا وَهُوَ صَرِيحُ الآيَةِ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ سُورَةَ النَّحْل 78.

والميثاقُ الذي أخذهُ اللهُ تعالى مِن آدمَ وذريّتِه حقٌّ وقدْ شملَ الأنبياء، قال تعالى (وإذْ أخذْنا منَ النبيينَ ميثاقَهم ومنكَ ومِن نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ابنِ مريمَ وأخذْنا منهم ميثاقًا غليظًا) والميثاقُ الذي أُخَذَ مِن ذريّةِ آدمَ هو ما ذكرَه اللهُ تعالى بقولِه (وإذْ أخذَ ربُّكَ مِنْ بَني آدمَ مِن ظهورِهم ذرّيَّتَهم وأشْهَدَهم على أنفسِهِم ألَسْتُ برَبِّكم قالوا بلى شهِدْنا أنْ تقولوا يومَ القيامةِ إنّا كنّا عن هذا غافلِين) وهذا الميثاقُ أي العهدُ هو اعترافُهم بعدَ أن استخرَجهم مِن ظهرِ آدمَ بعدَما نزلَ إلى الأرض فصوّرَهم وخلقَ فيهم المعرفةَ والإدراكَ بأنّه لا إلهَ لهم إلا الله، فجميعُ ذريّةِ آدمَ اعترفوا ذلك اليوم، كان آدمُ عليه السلام لما نزلَ إلى الأرض في نعمان الأراك في عرفات، اللهُ سبحانه وتعالى أخرجَ منْ ظهرِه أرواحَ كلِّ الذرية وصوّرَهم في صوَرِ البشر لكنْ كأمثالِ الذرّ أي النمل الأحمر الصغير لكنْ في الصورة البشرية ثم جاء الملَكُ مُبَلِّغًا عن الله قال إنّ ربَّكم يقول ألستُ بربِّكم، فخلقَ اللهُ تعالى في كلِّ الأرواحِ معرفتَه، عرَفوا الله، حتى أرواحُ الكفار واعترَفوا قالوا بلَى كلُّ الأرواحِ قالت بلى، أرواحُ المؤمنين وأرواحُ الكفار، هذا الميثاق الذي أُخِذَ من أرواحِ ذريةِ آدمَ عليه السلام، ثم بعدَ طولِ العهدِ لما طال العهدُ ودخلَ الروحُ في الجسدِ نسيَ هذا الروحُ ذلك العهد، لكنْ قولُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم (ما مِن مولودٍ يُولَدُ إلا ويولَدُ على الفِطرةِ) معناه هذا المولود يُولَدُ على مُقتضى ذلك العهد الذي أُخِذَ مِن روحِه حين أُخرِجَت من ظهرِ آدم وهو على الاستعدادِ لقَبولِ الحقِّ ليس معناه أنه يولَدُ عارفًا بربِّه لا، اللهُ يقول (واللهُ أخرجَكم مِن بطونِ أمّهاتِكم لا تعلمونَ شيئًا) الروحُ نسيَ لكنْ هو على الاستعداد، لذلك قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم (فأبَواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه) لأنّ الذي لا يعرفُ هو كالإناءِ الفارغِ يقبلُ ما يُسكَبُ فيه إنْ سُكبَ فيه العقيدةُ الصحيحةُ العادةُ أنه يقبل وإنْ سُكِبَ فيه العقيدةُ الفاسدةُ الباطلةُ كعقيدةِ اليهودِ أو المجوس يقبل، فمعنى (ما مِن مولودٍ يولَدُ إلا يولَدُ على الفطرة) أي يولَدُ على مُقتَضى العهد الذي أُخِذَ من هذا الروح حين أُخرِجَ من ظهرِ آدم في نعمان الأراك في أرضِ عرفات وليس معناه يولَد عارِفًا بربِّه وليس معناه يولَدُ وهو يعتقدُ العقيدةَ الصحيحة، لا يعتقدُ شيئًا، لا يعرِفُ شيئًا.