الحافظ الفقيه أبو العباس أحمد بن عمر الأندلسي ثم القرطبي المالكي
1 يونيو 2021مِنْ خِيَارِ الأَدعِيَةِ
5 يونيو 2021براءة الإمام أحمد بن حنبل من أدعياء السلفية
براءة الإمام أحمد بن حنبل من أدعياء السلفية
قال الله تعالى في القرآن الكريم (إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍۢ كَفُورٍ) سورة الحج.
ينسب مدَّعو السلفية زورًا أنفسهم إلى الإمام الكبير أحمد بن حنبل إمام الأئمة وعلم السنة في زمانه ومؤسس المذهب الحنبلي بينما يعتقدون التجسيم ويُشبِّهُون الله بخلقه، وحقيقة الأمر أنهم مُخالفون لما كان عليه الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل في الاعتقاد ولو قالوا نحن حنابلة، فإنما قولهم مجرد انتساب لا يصح في الواقع بالمرة، ومن نظر في سيرة الإمام أحمد وما قرَّره من مسائل الاعتقاد عرف صحة ما نقول وأيقن كذب أدعياء السلفية في انتسابهم إلى هذا الإمام العظيم، وقد روى غير واحد من أهل العلم الثقات عن الإمام أحمد أقوالًا في إثبات تنزيه الله والبراءة من التجسيم، بل صنّف بعضهم في ذلك خاصَّةً كتقي الدين أبي بكرٍ الحصني الشافعي المتوفَّى سنة 829 ه فإن له كتابًا سمَّاه دفعُ شُبَه من شبَّه وتمرَّد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد أفاد فيه وأجاد في بيان مخالفة المجسِّمة لما كان عليه الإمام أحمد في الاعتقاد ووسَّع فيه الكلام في تنزيه الله عن الجسمية وعلاج مرض التشبيه والتحذير منه ونفى موافقة ابن تيمية وأتباعه لمذهب الإمام أحمد حيث بيَّن ما كان عليه الإمام أحمد من التنزيه وما عليه ابن تيمية وموافقوه من التجسيم.
عقيدة الإمام أحمد:
نقل الحصني جزءًا كبيرًا من رد الحافظ ابن الجوزي وهو من فضلاء الحنابلة (توفي سنة 597 ه) على مخالفي مذهب الإمام أحمد ثم نقل اتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم الأكابر في عقيدة التنزيه، وروى فيه عن الإمام أحمد أنه قال في تأويل قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر، وهذا يُفيد أن الإمام أحمد نزَّه الله عن الاستواء بمعنى الاستقرار والجلوس خلافًا لما يقوله أدعياء السلفية، ونقل فيه أيضًا عن القاضي أبي يعلى عن الإمام أحمد في تأويل قوله تعالى (وجاء ربك) أنه قال المراد به قدرته وأمره، قلتُ وتأويل أحمد هذا رواه كذلك الحافظ البيهقي المتوفَّى سنة 458 ه في مناقب أحمد وصحَّح إسناده، وعبارته فيه عن الإمام أحمد إنما جاء أمره، ونقل مثلَه الحافظُ ابن كثير المتوفَّى سنة 774 ه في البداية والنهاية بسنده إلى الإمام أحمد أنه قال (جاء ثوابه) وفيه عن البيهقي أنه قال هذا إسنادٌ لا غُبار عليه، ولا يخفى أن ابن كثيرٍ عند الوهابية عُمدة فماذا هم قائلون وقد أثبت ابنُ كثيرٍ عن الإمام أحمد تنزيه الله عن الانتقال وتأويل ما يُوهم ذلك من النصوص كما بيَّناه.
وقال تقي الدين الحصني في مطلع كتابه المذكور (فإن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوامٍ أخباث السريرة يُظهرون الانتماءَ إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد وهم على خلاف ذلك ثم قال ويربطُون عقول العوامِّ وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني وإظهار التَّعبُّد والتَّقشف وقراءة الأحاديث ويعتنون بالمسند (كتاب مسند الإمام أحمد في الحديث) كل ذلك خزعبلة منهم وتمويه وقد انكشف أمرهم حتى لبعض العوامِّ) وقد أوضح التقي الحصني سببَ انتساب هؤلاء الغوغاء إلى مذهب هذا الإمام الجليل فقال في كتابه (قال الحافظ عبد الرحمن ابن الجوزي لما رأى الحسَّاد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه لتشييده بالكتاب والسنة انتموا إلى مذهبه ليُدخلوا عليه النقصَ والخللَ وصرف الناس عنه حسدًا من عند أنفسهم فصرَّحوا بالتشبيه والتجسيم ولم يستحُوا من القدير العليم ونسبوه إليه افتراءً عليه).
قلت وللحافظ ابن الجوزي أيضًا تصنيفٌ موجز الكلام عظيم المرام أسماه دفعُ شُبه التشبيه بأكف التنزيه يُوضح فيه عقيدةَ الإمام أحمد التي تتضمن تنزيهَ الله عن الجهة والمكان ومُشابهة المخلوقين وقد نقل كذلك ابنُ حجر الهيتمي المتوفَّى سنة 974 ه في كتابه المنهاج القويم عن القرافي وغيره أنهم حكَوا عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وأنهم حقيقون بذلك، وفي كتاب “تشنيف المسامع للفقيه المحدث بدر الدين الزركشي (المتوفَّى سنة 794 ه) أن الإمام أحمد نزَّه الله عن الجسمية وحكم بكفر من قال إن الله جسم لا كالأجسام.
التنزيه عند الإمام أحمد
وبهذا يظهر أن قول أدعياء السلفية بالتجسيم ضلالٌ مبين وأن نسبة ذلك إلى الإمام أحمد كذبٌ صريح، ولا ينفعهم أن يقولوا إن الله جسم لا كالأجسام لأنه تناقضٌ إذ الجسم ما له طولٌ وعرضٌ وسَمْكٌ سواءٌ كان كبيرًا أم صغيرًا، فمن قال الله جسم فقد أثبت له ذلك، فإن قال لا كالأجسام فكأنه يقول له طول لا كالطُّول وعرضٌ لا كالعرض وسَمْكٌ لا كالسَّمْك، وهذا دليل جهلٍ وسخافة عقلٍ ولو جاز أن يقال هذا لربما قال قائل لم لا يجوز إذًا أن يُقال الله إنسانٌ لا كالناس، وهذا ظاهر البُطلان.
ثم إليكم زيادةً على ما مرَّ ما يُقوِّي اليقين في النفس بحقِّية التنزيه وبُطلان التجسيم وبراءة الإمام أحمد:
قال الإمام أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي البغدادي شيخ الحنابلة ببغداد وابن شيخهم في كتابه اعتقاد الإمام أحمد (وأنكر (يعني أحمد) على من يقول بالجسم (أي في حق الله) وقال (أي أحمد) إن الأسماء مأخوذةٌ من الشريعة واللغة (معناه للأسماء معانٍ في الشرع ومعانٍ في اللغة) وأهل اللغة وضعوا (أي نقلوا إلينا أن هذا الاسم موضوع أي مستعمل) هذا الاسم لذي طولٍ وعرضٍ وسَمْكٍ وتركيبٍ وصورةٍ وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله (أي لا يُوصف بشىء من ذلك) فلم يجز أن يُسمَّى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ ذلك في الشريعة (أي لم يرد في الشرع إطلاق الجسم على الله) فبطل) أي فبطل إطلاق لفظ الجسم على ربنا تعالى.
فإذا ظهر هذا وهو أجلى من أن تطمسه تمويهات الوهابية الذين لا يغترُّ ببضاعتهم الكاسدة إلا الغوغاء من الناس فعليك به فإنه الحق فالزمه، وهو ما يؤيده النقل والعقل والإجماع وقد تكلمنا عن حقِّية التنزيه وخُطورة التجسيم في مقالاتٍ سابقة فلينظرها مريد الفائدة وإنما أردنا من خلال مقالنا هذا تسليط الضوء على جانب براءة الإمام أحمد من زيف الوهابية فحسب، والحمد لله أولًا وآخرًا.