حفظ الجار من كمال الإيمان
12 نوفمبر 2018حديث (عليكم بالسَّنا والسَّنّوت فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء إلاّ السّام)
13 نوفمبر 2018بَيانُ حُكْمِ شَدِّ الرِّحالِ لِزِيارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَشْكُرُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيْهِ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا ومن سَيِّئاتِ أَعْمالِنَا، مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ ولا مَثيلَ لَه ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وحَبِيبَنا وعَظِيمَنا وقائِدَنا وقُرَّةَ أَعْيُنِنا محمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ وصَفِيُّهُ وحَبِيبُهُ، مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ هادِيًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَه.
أَمّا بَعْدُ أَيُّها الأَحِبَّةُ فَأُوصِي نَفْسِي وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ وبِالتَّمَسُّكِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وغِياثًا لِلْمَكْرُوبِينَ ومَلْجَأً لِلْخائِفِينَ صَلَواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحِيمِ والْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنا ونُورِ عُيُونِنا محمَّدٍ وعَلى جَمِيعِ إِخْوانِهِ الأَنْبِياءِ والمُرْسَلِين.
إِخْوَةَ الإِيمانِ جاءَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤﴾(سُورَةُ النِّساء/64) أَنَّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِشِرْكٍ أَوْ كُفْرٍ غَيْرِ شِرْكٍ أَوْ أَيِّ ذَنْبٍ دُونَ الكُفْرِ والشِّرْكِ ثُمَّ جاءَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تائِبًا مُسْتَغْفِرًا اللهَ مِمّا اقْتَرَفَهُ فَإِنَّ اللهَ تَعالى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ ويَمْحُو عَنْهُ خَطِيئَتَه، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿جَآءُوكَ﴾ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولَيْسَ ذَلِكَ الْمَجِيءُ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ في حالِ حَياتِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى النَّوَوِيُّ وغَيْرُهُ (أَنَّ أَعْرابِيًّا جاءَ إِلى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقالَ السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ قالَ اللهُ تَعالى ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤﴾ (سُورَةُ النِّساء/64) وقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وجِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي ثُمَّ ذَهَبَ وكانَ عِنْدَ القَبْرِ الشَّرِيفِ رَجُلٌ سَمِعَهُ ونامَ بَعْدَ ذَهابِهِ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ أَدْرِكِ الأَعْرابِيَّ وقُلْ لَهُ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ ). اهـ فَمَنْ قَصَدَ قَبْرَ النَّبِيِّ لأَِجْلِ زِيارَتِهِ لِلسَّلامِ والاِعْتِبارِ والتَّبَرُّكِ فَقَصْدُهُ حَسَنٌ وزِيارَتُهُ حَسَنَةٌ فِيها خَيْرٌ وثَواب.
وقَدْ رَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ مالِكِ الدّارِ وكانَ خازِنَ عُمَرَ أَنَّ صَحابِيًّا هُوَ بِلالُ بْنُ الحارِثِ الْمُزَنِيُّ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّم في زَمَنِ سَيِّدِنا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقالَ يا رَسُولَ اللهِ أَدْرِكْ أُمَّتَكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا أَيْ بِانْحِباسِ الْمَطَرِ عَنْهُمْ فَجاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وسلَّم في المَنامِ وقالَ لَهُ إِنَّهُمْ سَيُسْقَوْنَ، فَلَمّا أَفاقَ قَصَدَ سَيِّدَنا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى سَيِّدُنا عُمَرُ. اهـ وهَذا حَدِيثٌ ثابِتٌ صَحِيحٌ فَبَعْدَ هَذا مِنْ أَيْنَ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ البِدَعِ إِنَّ قَصْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ لِلْبَرَكَةِ حَرامٌ أَوْ شِرْكٌ ومِنْ أَيْنَ يَقُولُونَ إِنَّ السَّفَرَ لِزِيارَتِهِ مَعْصِيَة. وهَلْ كانَ سَيِّدُنا عُمَرُ وسائِرُ الخُلَفاءِ الراشِدِينَ والصَّحابَةِ الأَكارِمِ يُشَجِّعُونَ الْمُنْكَراتِ ويَفْتَحُونَ أَبْوابَ الشِّرْكِ ويَسْكُتُونَ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الباطِل. حاشا وكَلاَّ.
وأَمّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسلامُ (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلاَّ إِلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ الْمَسْجِدِ الحَرامِ والْمَسْجِدِ الأَقْصَى ومَسْجِدِي هَذا) فَلَيْسَ مَعْناهُ تَحْرِيمَ السَّفَرِ لِزِيارَةِ الحَبِيبِ الْمُصْطَفَى صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ العُلَماءِ الْمُعْتَبَرِينَ بَلْ مَعْناهُ لا يَنْبَغِي لِشَخْصٍ أَنْ يُسافِرَ إِلى مَسْجِدٍ لأَجْلِ الصَّلاةِ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ هَذِهِ المَساجِدِ الثَّلاثَةِ لأنَّ الصَّلاةَ لا تُضاعَفُ في أَيِّ مَسْجِدٍ إِلاَّ في هَذِهِ الْمَساجِدِ الثَّلاثَة.
قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ في التَلْخِيصِ الحبيرِ نَقْلاً عَنْ بَعْضِ العُلَماءِ: إِنَّ هَذِهِ المَساجِدَ الثَّلاثَةَ مُسَاوِيَةٌ لِسائِرِ الْمَساجِدِ في الْمَسْجِدِيَّةِ فَلَمْ يُمَيِّزْها عَنْ سائِرِ الْمَساجِدِ بِشَدِّ الرِّحالِ إِلَيْها وطَلَبِ زِيارَتِها لِلْعِبادَةِ فِيها إِلاَّ أَنَّها مَبانِي النَّبِيِّينَ ومَعاهِدُهُمْ وأَمْكِنَةُ غالِبِ عِبادَتِهِمْ وإِرْشاداتِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَإِذا طُلِبَتْ زِيارَتُها بِهَذا الحَدِيثِ كانَتْ زِيارَةُ أَصْحابِها أَوْلَى بِالطَّلَبِ وأَحَقُّ بِشَدِّ الرِّحالِ إِلَيْها وهَذا الاِسْتِدْلالُ مِنْ قَبِيلِ الاِسْتِدْلالِ بِمَفْهُومِ الأَوْلى كَما يَقُولُ الأُصُولِيُّونَ وذَلِكَ أَمْرٌ واضِحٌ لِمَنْ نَوَّرَ اللهُ بَصِيرَتَهُ ومَنْ فَهِمَ مِنْ هَذا الحَدِيثِ مَنْعَ السَّفَرِ لِزِيارَةِ الْمُصْطَفَى صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَوْ زِيارَةِ القُبُورِ فَقَدْ وَهِمَ وما فَهِمَ.
كَيْفَ وقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ أخَرُ يُفَسِّرُ هَذا الحَدِيثَ وهُوَ (لا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحالُهُ إِلى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلاةُ غَيْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ والمَسْجِدِ الأَقْصَى ومَسْجِدِي هَذا) فَهَذآلحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ الإِمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلاّ إِلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ أَنَّهُ لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلى مَوْضِعٍ لأَجْلِ الصَّلاةِ فِيهِ إِلاَّ لِهَذِهِ الْمَساجِدِ الثَّلاثَةِ لِمَا في مُضاعَفَةِ أَجْرِ الصَّلاةِ فِيها ما لَيْسَ في غَيْرِها، وأَمّا قَصْدُها لِغَيْرِ الصَّلاةِ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ وزِيارَةِ الأَنْبِياءِ والصالِحِينَ وغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ داخِلاً في هَذا الحَدِيثِ ولا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْه، فَهَذِهِ الرِّوايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوايَةَ الأُولى وخَيْرُ ما فُسِّرَ بِهِ الحَدِيثُ أيَةٌ أَوْ حَدِيثٌ.
بَعْدَ هَذا البَيانِ ظَهَرَ يا أَخِي الْمُسْلِمَ أَنَّ زِيارَةَ قَبْرِهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ القُرَبِ إِلى اللهِ تَعالى الَّتِي لا يُنْكِرُها إِلاَّ مَحْرُومٌ بَعِيدٌ عَنِ الخَيْرِ فَقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (مَنْ زارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفاعَتِي) رَواهُ الدّارَقُطْنِيّ.
لِطَيْبَةَ عَرِّجْ إِنَّ بَيْـنَ قِبابِهـــا *** حَبِيبًا لأَدْواءِ القُلُوبِ طَبِيبُ
إِذا لَمْ تَطِبْ فِـي طَيْبَةٍ عِنْدَ طَيِّبٍ *** بِهِ طابَتِ الدُّنْيا فَأَيْنَ تَطِيبُ
ويُسْتَحَبُّ لِلزّائِرِ إِخْوَةَ الإِيمانِ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ زِيارَتِهِ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّقَرُّبَ إِلى اللهِ تَعالى بِالْمُسافَرَةِ إِلى مَسْجِدِهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ والصَّلاةِ فِيهِ ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ دُخُولِهِ ويَلْبسَ أَنْظَفَ ثِيابِهِ ويُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ في الرَّوْضَةِ أَوْ غَيْرِها مِنَ الْمَسْجِدِ شُكْرًا للهِ تَعالى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ ويَسْأَلَهُ إِتْمامَ ما قَصَدَهُ وقَبُولَ زِيارَتِهِ ثُمَّ يَأْتِيَ القَبْرَ الكَرِيمَ ويَسْتَقْبِلَ جِدارَ القَبْرِ ويَقِفَ ناظِرًا إِلى أَسْفَلِ ما يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ جِدارِ القَبْرِ غاضًّا الطَّرْفَ في مَقامِ الْهَيْبَةِ والإِجْلالِ فارِغَ القَلْبِ مِنْ عَلائِقِ الدُّنْيا مُسْتَحْضِرًا في قَلْبِهِ جَلالَةَ مَوْقِفِهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ ولا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بَلْ يَقْتَصِدُ أَيْ يَغْضُضُ مِنْ صَوْتِهِ يَقُولُ السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ سَمِعْتُ أَنَّ اللهَ يَقُولُ ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤﴾ وقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلى رَبِّي:
يا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالقـاعِ أَعْظُمُهُ *** فَطابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القاعُ والأَكَمُ
نَفْسِي الفِداءُ لِقَبْرٍ أَنْـتَ ساكِنُـهُ *** فِيهِ العَفافُ وفِيهِ الجُـودُ والكَرَمُ
أَنْتَ الشَّفِيعُ الَّـذِي تُرْجَى شَفاعَتُهُ *** عِنْدَ الصِّراطِ إِذا مـا زَلَّتِ القَدَمُ
وصاحِباكَ فَــلا أَنْسَاهُما أَبَـدًا *** مِنِّي السَّلامُ عَلَيْكُمْ ما جَرَى القَلَمُ
وقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ والبَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُما (مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي).
اللَّهُمَّ ارْزُقْنا زِيارَتَهُ وشَفاعَتَهُ ورُؤْيَتَهُ في الْمَنامِ وعِنْدَ الْمَماتِ يا رَبَّ العالَمِين.
هَذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُم.