الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ
19 ديسمبر 2020اتفاقُ الصحابةِ في العقيدةِ
24 ديسمبر 2020أقسامُ المعذَّبينَ في النارِ
الحمدُ للهِ رب العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالهِ وصَحبهِ، أمّا بعد، فقد قال اللهُ تعالى في سورةِ الـمُلكِ ﴿ولِلَّذِينَ كَفَرُوا برَبِّهِمْ عذابُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ المصيرُ﴾ وقال تعالى في سورةِ الكهفِ ﴿إنَّا أعْتَدْنا للظالِمينَ نارًا أحاطَ بهمْ سُرَادِقُها وإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بماءٍ كالـمُهْلِ يَشْوي الوُجوهَ بِئسَ الشرابُ وساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾.
إنَّ الإسلامَ هوَ الدينُ الذي رَضِيَهُ اللهُ لِعِبادِهِ لقولهِ تعالى في سورةِ المائدةِ ﴿ورَضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دينًا﴾ وقدْ وعدَ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ هذا الدينَ الحنيفَ جنةَ الخُلْدِ التي هيَ دارُ السلامِ جَزاءً لهم وتَرغيبًا، وتَوَعَّدَ مَنْ كفرَ بهِ نارَ جهنَّمَ خالِدينَ فيها أبدًا جزاءً لهم وترَهيبًا.
وروى البخاريٌّ أنَّ ابنَ عمرَ قالَ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إذا صارَ أهلُ الجنةِ إلى الجنةِ وأهلُ النارِ إلى النارِ جِيءَ بالموتِ حتى يُجعَلَ بينَ الجنةِ والنارِ ثُمَّ يُذبَحُ ثمَّ يُنادي مُنادٍ يا أهلَ الجنةِ لا مَوْتَ ويا أهلَ النارِ لا موتَ فيزدادُ أهلُ الجنةِ فرَحًا إلى فَرَحِهِم ويزدادُ أهلُ النارِ حُزنًا إلى حُزنِهِم) مُتَّفَقٌ عليهِ (1) وقال تعالى في سورةِ الأحزابِ ﴿إنَّ اللهَ لَعَنَ الكافرينَ وأعَدَّ لهُمْ سعيرًا * خالدينَ فيها أبدًا لا يجِدُونَ وليًّا ولا نَصيرًا﴾ يُؤخَذُ منَ الآيةِ والحديثِ أمرانِ الأولُ أنَّ النارَ قدْ خُلِقَتْ وأُعِدَّتْ وسُعِّرَتْ والثاني أنَّ الكُفَّارَ أهلَ النارِ خالِدُونَ في نارِ جهنَّمَ إلى أبَدِ الآبادِ فلا يخرُجونَ منها بلْ هيَ مَقَرُّهُم ومُستَقرُّهُم لا يَذوقونَ فيها بردًا ولا شرابًا إلا حَميمًا وغَسَّاقًا وذلكَ جزاءٌ لهم بما كسَبَتْ أيدِيهم.
والكافرُ يرى مَقْعَدَهُ منَ النارِ وهو في البرزَخِ قال تعالى في سورةِ غافرٍ ﴿النَّارُ يُعرَضُونَ عليها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويومَ تقومُ الساعةُ أدْخِلُوا ءالَ فِرْعَونَ أشدَّ العذابِ﴾ فهذهِ الآيةُ دليلٌ على أنَّ الكافرَ قبلَ أن تقومَ الساعةُ يُعذَّبُ وهو في البرزَخِ بنَظَرِهِ لـمَقْعَدِهِ منَ النارِ مرةً في الصباحِ ومرةً في المساءِ وهو يعذّبُ بغيرِ ذلكَ من أنواعِ العذابِ، ويومَ القيامةِ يُساقُ إلى النارِ، قال تعالى في سورةِ الزُّمر ﴿وسِيقَ الذينَ كفرُوا إلى جهنَّمَ زُمَرًا﴾ ونارُ جهنَّمَ هيَ أعظمُ نارٍ خلقها اللهُ، فأقوَى نارٍ في الدنيا هيَ جُزءٌ منْ سبعينَ جُزءًا منْ نارِ جهنم، قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم (نارُكُم هذهِ جُزءٌ منْ سبعينَ جُزءًا من نارِ جهنَّمَ) (2) رواهُ الحاكمُ.
وروِيَ عن عاصمٍ عن أبي صالحٍ قال إذا أُلْقِيَ الرجلُ في النارِ لـم يكُنْ لهُ مُنتهًى حتى يبلُغَ قعرَها ثمَّ تَجيشُ بهِ جهنَّمُ فترْفَعُهُ إلى أعلى جهنم وما على عِظامِهِ مُزْعَةُ لحمٍ فتَضْرِبُهُ الملائكةُ بالمقامعِ فيَهْوِي بها إلى قعرِها فلا يزالُ كذلكَ (3) أو كما قال أخرجَهُ البيهقيُّ.
وقال كعبُ الاحبارِ والذي نفسُ كعبٍ بيدِهِ لو كُنتَ بالمشرقِ والنارُ بالمغربِ ثمَّ كُشِفَ عنها لخرَجَ دِماغُكَ مِنْ مَنْخِرَيْكَ مِنْ شدةِ حَرِّها، يا قومُ هل بهذا قرارٌ أمْ لكم على هذا صبرٌ، يا قومُ طاعةُ اللهِ أهونُ عليكُم من هذا العذابِ فأطِيعُوهُ (4).
ولْيُعلَمْ أنَّ عذابَ أهلِ النارِ يكونُ بالروحِ والجسدِ، وفي النارِ يكونُ جَسَدُ الكافرِ أكبرَ بكثيرٍ مِنْ جسَدِهِ وهوَ في الدنيا فقدْ روى مسلمٌ عن أبي هُريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال (ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرِ مثلُ أُحُدٍ وغِلَظُ جِلْدِهِ مَسيرةُ ثلاث (5).
وكما أنَّ في الجنةِ درجاتٍ كذلكَ إنَّ في النارِ دَرَكاتٍ ويُقالُ أيضًا درَجَاتٌ وذلكَ حسبَ أعمالِ العِبادِ قال تعالى في سورةِ الأنعامِ ﴿ولِكُلٍّ درَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ والمنافقونَ هُمْ في الدَّرْكِ الأسفلِ منَ النارِ وهذا المكانُ خاصٌّ بالكُفارِ لا يَصِلُهُ عُصاةُ المسلمينَ وقَعْرُ جهنَّمَ مسافةُ سبعينَ عامًا في النزولِ، قالَ صلى الله عليه وسلم (إنَّ العبدَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بِها في النارِ سبعينَ خريفًا) رواهُ الترمذي (6) ومعنى الحديثِ أنَّ الإنسانَ قد يتكلمُ بكلمةٍ لا يظُنُّ فيها سُوءًا وهيَ في الحقيقةِ تَسْتَوجِبُ نُزولَهُ إلى قعرِ جهنَّمَ الذي هو خاصٌّ بالكُفارِ.
أمَّا عُصاةُ المسلمينَ فبَعضُهُم يقعُ في نارِ جهنمَ والبعضُ الآخرُ يعفُو اللهُ عنهم فيُنجيهِمْ منها كتاركِ الصلاةِ الذي تَوَعَّدَهُ اللهُ بقولهِ في سورةِ الماعُون ﴿فوَيلٌ للمُصَلِّينَ * الذينَ هُم عنْ صلاتِهِم ساهُونَ﴾ وهؤلاءِ همُ الذينَ يُؤَخِّرونَ صلاتَهُم عن وقتِها حتى يدخُلَ وقتُ الصلاةِ الأُخرى بغيرِ عُذرٍ، قال صلى الله عليه وسلم في وعيدِ تاركِ الصلاةِ (ومَنْ لـم يأتِ بِهِنَّ فليسَ لهُ عَهْدٌ أنْ يُدخِلَهُ الجنةَ إنْ شاءَ عذَّبَهُ وإنْ شاءَ أدخَلَهُ الجنةَ) رواه الإمامُ أحمدُ (7) فتاركُ الصلاةِ المفروضةِ من أهلِ الكبائرِ استحقَّ العذابَ في النارِ بعدْلِ اللهِ فإذا أدخَلَهُ اللهُ النارَ بمَعاصيهِ فإنهُ لا يَـخلُدُ فيها بلْ إنهُ يتعذَّبُ فيها لفترةٍ مُعيَّنةٍ ثمَّ يُخرِجُهُ اللهُ منها إلى الجنةِ، فعَنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ ناسًا مِنْ أمتي يُعَذَّبُونَ بذُنُوبِهِم فيَكُونونَ في النارِ ما شاءَ اللهُ أنْ يكونوا ثمَّ يُعَيِّرُهُم أهلُ الشركِ فيَقولونَ ما نَرَى ما كُنتُم تُخالِفُونا فيهِ مِنْ تصْدِيقِكُم وإيمانِكُم نَفَعَكُم فلا يبقى مُوَحِّدٌ إلا أخرَجَهُ اللهُ منَ النارِ) ثمَّ قرأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ﴿رُبما يَوَدُّ الذينَ كَفرُوا لوْ كانُوا مُسْلِمينَ﴾ (8) (9) وذلك لأنَّ الكفارَ محرُومونَ منْ رحمةِ اللهِ في الآخرةِ لقولِهِ تعالى في سورةِ الأعراف ﴿ورَحْمَتي وسِعَتْ كلَّ شىءٍ فسَأكتُبُها للذينَ يتَّقُونَ﴾ أيْ أنَّ رحمةَ اللهِ في الدنيا شـمَلَتِ المسلمَ والكافرَ ولكنَّها في الآخرةِ خاصةٌ بالمسلمينَ الذينَ تجنَّبُوا الشركَ وماتُوا مُؤمنينَ.
فاحرصْ أخي المسلمَ دائمًا على أداءِ ما أمرَكَ اللهُ بهِ وعلى اجتِنابِ ما نهاكَ اللهُ عنهُ ولا تسْتَنْزِلْ غضبَ اللهِ وسَخَطَهُ واجْعَلْ هواكَ تبعًا لشرعِ اللهِ واعْمَلْ لِما بعدَ الموتِ فإنَّ الكَيِّسَ مَنْ دانَ نفسَهُ وعَمِلَ لِما بعدَ الموتِ، قال تعالى في سورة النازِعات ﴿فأمَّا مَنْ طغى * وءاثَرَ الحياةَ الدُّنيا * فإنَّ الجحيمَ هيَ المأوى * وأمَّا مَنْ خافَ مقامَ ربِّهِ ونَهَى النفسَ عنِ الهَوى * فإنَّ الجنةَ هيَ المأوى﴾.
اللهمَّ ءاتِ نفوسَنا تقواها وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها أنتَ وليُّها ومَولاها، وسبحانَ ربِكَ ربِّ العزةِ عمَّا يَصِفُونَ وسلامٌ على الـمُرسَلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
والله تعالى أعلم.
(1) رواه البخاري في صحيحه باب صفة الجنة والنار ومسلم في صحيحه باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء .
(2) رواه الحاكم في المستدرك كتاب الأهوال.
(3) رواه البيهقي في البعث والنشور باب ما جاء في ثياب أهل النار وسلاسلهم وأغلالهم.
(4) رواه أبو نعيم في الحِلية.
(5) رواه مسلم في صحيحه باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء.
(6) رواه الترمذي في السنن باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس.
(7) رواه أحمد في مسنده باب حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(8) سورة الحجر الآية 2.
(9) رواه الطبراني في المعجم الأوسط باب من اسمه محمد.