حديث (لَعَنَ اللهُ المحلِّلَ والْمُحَلَّلَ لهُ)
17 مايو 2022ما الدليل على وجوب الغسل من الماء الدافق؟
28 مايو 2022الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ (3)
مَسْأَلَةٌ تَابِعَةٌ تَرْجَمَةٌ خَاصَّةٌ (تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقًا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لا يُطَاقُ وَلا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْفِقْهِ مَسَائِلُ مِنْهَا إِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَىْءٍ مُجْمَلٍ فَطُولِبَ بِالتَّفْسِيرِ فَامْتَنَعَ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُحْبَسُ كَمَا يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ وَالْبَيَانَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى وَامْتَنَعَ مِنَ الْبَيَانِ جُعِلَ ذَلِكَ إِنْكَارًا مِنْهُ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الدَّعْوَى فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِذَا أَصَرَّ جُعِلَ نَاكِلًا وَحُلِّفَ الْمُدَّعِي أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالْمُجْمَلِ ابْتِدَاءً فَيُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ادَّعِ عَلَيْهِ حَقَّكَ فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَإِنْ أَنْكَرَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ قَالَ لا أَدْرِي جَعَلْنَاهُ مُنْكِرًا فَإِنْ أَصَرَّ جَعَلْنَاهُ نَاكِلًا، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِغَصْبٍ مُبْهَمٍ وَامْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ حُبِسَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُبْهَمٍ فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي).
وَمَعَ إِتْقَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ، فيَنْبَغِي عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُتْقِنَ لُغَةَ الْعَرَبِ وَيَعْرِفَ مَدْلُولاتِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَعْرِفَ النَّحْوَ وَالصَّرْفَ وَالْبَلاغَةَ، هَذَا فِي غَيْرِ السَّلِيقِيِّ أَمَّا السَّلِيقِيُّ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي كَوْنِ كَلامِهِ مُطَابِقًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَسَبِ أُصُولِهَا وَأَسَالِيبِهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ تَعَلُّمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّطْقِ بِالصَّوَابِ فِي اللُّغَةِ.
وَمَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَيْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، فيَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعًا وَاخْتِلافًا فَلا يُخَالِفُهُمْ فِي اجْتِهَادِهِ.
وَالْمُجْتَهِدُ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا احْتَمَلَ التَّأْوِيلَ بِالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَإِجْمَاعُ النَّاسِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ، وَلا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي شَىْءٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الأَوْجُهِ، وَلا يَكُونُ صَالِحًا لِأَنْ يَقِيسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلافِ الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَلا يَعْجَلُ وَيَسْمَعُ مِمَّنْ خَالَفَهُ لِيَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ إِنْ كَانَتْ، وَأَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ جَهْدِهِ، وَيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ قَالَ مَا قَالَ.
وَمِمَّا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ الْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ وَالظَّاهِرَ، وَالْمُجْمَلُ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ، وَالْبَيَانُ هُوَ إِخْرَاجُ الشَّىْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي أَيِ الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ، وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ وَيُسَمَّى الظَّاهِرَ بِالدَّلِيلِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات 47] أَيْ بِقُوَّةٍ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَمْعُ يَدٍ وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَصُرِفَ عَنْهُ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالنَّصِّ الْقُرْءَانِيِّ الصَّرِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.
وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَيْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ، وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَهِيَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، فلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ عِلْمَ الدِّينِ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّ الْقَرَائِحَ تَخْتَلِفُ، هَذَا ذَكَاؤُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَهَذَا ذَكَاؤُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَهَذَا بَلِيدٌ وَهَذَا أَبْلَدُ، وَهَؤُلاءِ الأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ كُلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ قَرَائِحَ قَوِيَّةً أَذْهَانًا قَوِيَّةً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ قَرَائِحِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ وُجُودِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ مَالِكٍ بَعْدَ أَنْ دَرَسَ عَلَى مَالِكٍ زَمَانًا جَاءَ رَجُلٌ حَلَفَ قَالَ عَلَيَّ الطَّلاقُ أَنَّ هَذَا الْقُمْرِيَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ، وَالْقُمْرِيُّ نَوْعٌ مِنَ الْحَمَامِ، فَسَأَلَ مَالِكًا قَالَ أَنَا حَلَفْتُ بِطَلاقِ زَوْجَتِي أَنَّ هَذَا الْقُمْرِيَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: طَلَقَتِ امْرَأَتُكَ، وَمَالِكٌ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَهْدَأَ مِنَ الصِّيَاحِ بَعْضَ الْوَقْتِ، ثُمَّ عَرَفَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَالِكًا أَفْتَى هَذَا الإِنْسَانَ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ فَقَالَ لَهُ لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُكَ، الشَّافِعِيُّ نَظَرَ فَقَالَ هَذَا الرَّجُلُ لَمَّا حَلَفَ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ أَنَّ هَذَا الْقُمْرِيَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ مَا قَصَدَ أَنَّهُ كُلَّ سَاعَةٍ لا يَهْدَأُ، إِنَّمَا قَصْدُهُ أَنَّهُ كَثِيرُ الصِّيَاحِ، فَلَمْ تَنْكَسِرْ يَمِينُهُ فَلَمْ تَطْلُقِ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ هُنَا فَتًى أَفْتَانِي بِأَنَّهُ لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتِي، قَالَ مَنْ هُوَ، قَالَ هَذَا، فَحَضَرَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ كَيْفَ قُلْتَ لِلرَّجُلِ إِنَّ امْرَأَتَكَ لَمْ تَطْلُقْ، قَالَ أَلَيْسَ أَنْتَ حَدَّثْتَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ خَطَبَا امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَحَدُهُمَا مُعَاوِيَةُ وَالآخَرُ أَبُو جَهْمٍ فَقَالَ الرَّسُولُ (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ)، فَهَلْ أَرَادَ الرَّسُولُ لَمَّا قَالَ (لا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ)، أَنَّهُ فِي حَالِ النَّوْمِ وَفِي حَالِ الأَكْلِ الْعَصَا تَظَلُّ عَلَى عَاتِقِهِ؟ أَمْ أَرَادَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْحَمْلِ وَالْمُلازَمَةِ لِلْعَصَا لِأَنَّهُ يُحِبُّ الضَّرْبَ؟ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذْتُ الْحُكْمَ، فَسَكَتَ مَالِكٌ وَلَمْ يُعَارِضْهُ.
وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فالْمُقَلِّدُ لَهُ رُخْصَةٌ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ مَذْهَبٍ يُرِيدُ إِنْ شَاءَ يُقَلِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ مَرَّةً يُقَلِّدُ هَذَا وَمَرَّةً هَذَا وَمَرَّةً هَذَا، أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلا يَعْمَلُ بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ.
يتبع في الجزء الرابع.