مَا الْحِكْمَةُ فِي تَشْبِيهِ عِيسَى بِآدَمَ عليهما الصلاة والسلام فِي قوله تعالى (إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)؟
19 يونيو 2022المختصر المفيد لبيان أحكام الأضحيّة والذكاة وصلاة العيد
22 يونيو 2022التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ
اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ، وَجَوَازُ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَظْفَارَهُ.
أَمَّا اقْتِسَامُ الشَّعَرِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رَمَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ احْلِقْ، فَحَلَقَ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ هَهُنَا أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ لِلْحَلَّاقِ هَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَزَّعَ بِنَفْسِهِ بَعْضًا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَأَعْطَى بَعْضًا لِأَبِي طَلْحَةَ لِيُوَزِّعَهُ فِي سَائِرِهِمْ وَأَعْطَى بَعْضًا أُمَّ سُلَيْمٍ فَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَقَدْ قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ، ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِي خُطَّتِهِمْ فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ وَتَوَارَدَ ذَلِكَ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ.
فالتَّبَرُّكُ مَعْنَاهُ طَلَبُ زِيَادَةِ الْخَيْرِ، وَقَدْ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ لا لِيَأْكُلُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ لا يُؤْكَلُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الأَكْلِ، فَأَرْشَدَ الرَّسُولُ أُمَّتَهُ إِلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ كُلِّهَا حَتَّى بُصَاقِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ أَخَذَ شَعْرَةً وَالآخَرُ أَخَذَ شَعْرَتَيْنِ وَمَا قَسَمَهُ إِلَّا لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَهُ فِي الْمَاءِ فَيَسْقُونَ هَذَا الْمَاءَ بَعْضَ الْمَرْضَى تَبَرُّكًا بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ بَصَقَ فِي فِي الطِّفْلِ الْمَعْتُوهِ وَكَانَ يَعْتَرِيهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ (اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْجِنِّيُّ فَتَعَافَى.
فَتَقْسِيمُ النَّبِيِّ لِشَعْرِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ كَانَ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِي خُطَّتِهِمْ (الْخُطَّةُ بِالضَّمِّ الْخَصْلَةُ، كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ) فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ، وَتَوَارَدَ ذَلِكَ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَقَدْ رَوَى الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ (رَأَيْتُ أَبِي يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ يُقَبِّلُهَا، وَأَحْسَبُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ وَيَشْرَبُهُ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَرَأَيْتُهُ أَخَذَ قَصْعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَغَمَسَهَا فِي جُبِّ الْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا، وَرَأَيْتُهُ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَيَمْسَحُ بِهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ).
وَرَوَى الْحَافِظُ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ (حَضَرْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَحْدَثْتُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ حَدَثًا وَلا أَدْرِي مَا حَالِي عِنْدَهُ (لا تَعْنِي بِهِ الْخَوْفَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ إِنَّمَا تَعْنِي بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ خِلافُ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَإِنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) فَلا تَدْفِنُونِي مَعَهُ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُجَاوِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَلا أَدْرِي مَا حَالِي عِنْدَهُ، ثُمَّ دَعَتْ بِخِرْقَةٍ مِنْ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَقَالَتْ ضَعُوا هَذِهِ عَلَى صَدْرِي وَادْفِنُوهَا مَعِي لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) (يَجُوزُ أَنْ تَتَخَيَّلَ أَنْ يُصِيبَهَا شَىْءٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لَكِنْ لا تَتَخَيَّلُ أَنْ يُصِيبَهَا عَذَابُ الآخِرَةِ). اهـ
وَأَمَّا اقْتِسَامُ الأَظْفَارِ فَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَا.
أَمَّا جُبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ (أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا جُبَّةً طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً لَهَا لَبِنَةُ دِيبَاجٍ وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ، وَقَالَتْ هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِي بِهَا)، وَفِي رِوَايَةٍ (نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ مِنَّا).
وَعَنْ حَنْظَلَةَ بنِ حَذْيَمَ قَالَ (وفَدْتُ مَعَ جَدِّي حَذْيَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي بَنِينَ ذَوِي لِحًى وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا أَصْغَرُهُمْ فَأَدْنَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، قَالَ الذَّيَّالُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ حَنْظَلَةَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْوَارِمِ وَجْهُهُ أَوِ الشَّاةِ الْوَارِمِ ضَرْعُهَا، فَيَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَيَمْسَحُهُ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ بِنَحْوِهِ، وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ.
وَعَنْ ثَابِتٍ قَالَ (كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَانِي فَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَآخُذُ بِيَدَيْهِ فَأُقَبِّلُهُمَا وَأَقُولُ بِأَبِي هَاتَانِ الْيَدَانِ اللَّتَانِ مَسَّتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ بِأَبِي هَاتَانِ الْعَيْنَانِ اللَّتَانِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَقْدِمِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَعَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ أَقْبَلَ مَرْوَانُ (يَعْنِي مَرْوَانَ بنَ الْحَكَمِ) يَوْمًا (وَكَانَ حَاكِمًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ) فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبٍ (وَاسْمُهُ خَالِدُ بنُ زَيْدٍ) فَقَالَ نَعَم جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ يَقُولُ لا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ (مَعْنَاهُ أَنْتَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يَا مَرْوَانُ، لَسْتَ أَهْلًا لِتَوَلِّي الأَمْرِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَغَيْرُهُمَا بِالإِسْنَادِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ اطْلُبُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، فَقَالَ خَالِدٌ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ حَبِيبُ الرَّحْمٰنِ الأَعْظَمِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ (قَالَ الْبُوصِيرِيُّ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ وَرِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ). اهـ
فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، وهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ النَّبِيِّ وَبِقَبْرِهِ كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ وَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ أَبِي أَيُّوبٍ لَمْ يَسْتَنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَاذَا يَقُولُ أَتْبَاعُ ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ قَصْدَ الْقَبْرِ لِلتَّبَرُّكِ شِرْكًا؟ هَلْ يُكَفِّرُونَ أَبَا أَيُّوبٍ أَمْ مَاذا يَفْعَلُونَ؟ فَتَكْفِيرُ الْوَهَّابِيَّةِ لِمَنْ يَقْصِدُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ يَنْعَطِفُ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ إِلَى الصَّحَابَةِ فَيَكُونُونَ كَفَّرُوا السَّلَفَ وَالْخَلَفَ، ثُمَّ مَاذَا يَفْعَلُ هَؤُلاءِ بِنَصِّ الإِمَامِ أَحْمَدَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ قَالَ سَأَلْتُهُ (يَعْنِي سَأَلَ أَبَاهُ الإِمَامَ أَحْمَدَ) عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِّهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيَفْعَلُ بِالْقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَ هَذَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ (لا بَأْسَ بِذَلِكَ). اهـ وَهَذِهِ النُّسْخَةُ نُسْخَةٌ مُعْتَمَدَةٌ طُبِعَتْ فِي اسْطَنْبُول عَلَى نُسْخَةٍ خَطِّيَّةٍ عَلَيْهَا خَطُّ أَبِي عَلِيٍّ الصَّوَّافِ وَقُوبِلَتْ عَلَى نُسْخَةِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي كِتَابِهِ اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (انْظُرِ الْكِتَابَ (ص/367)) فَقَدْ رَخَّصَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي التَّمَسُّحِ بِالْمِنْبَرِ وَالرُّمَّانَةِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ مَقْعَدِ النَّبِيِّ وَيَدِهِ. اهـ
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ رَدًّا عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِي افْتَرَى عَلَى السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ قَصْدِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ رَجَاءَ قَبُولِ الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ فَقَالَ (أَيِ ابْنُ تَيْمِيَةَ) (اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ لا يَتَمَسَّحُ بِالْقَبْرِ وَلا يُقَبِّلُهُ مَا نَصُّهُ) بَلْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ حُجْرَةِ النَّبِيِّ. اهـ
وَذَكَرَ مَنْصُورٌ الْبَهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ لِلْمَرْوَزِيِّ يَتَوَسَّلُ يَعْنِي الْمُسْتَسْقِي بِالنَّبِيِّ فِي دُعَائِهِ، وَنَصُّ عِبَارَةِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ فِي دُعَائِهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعَبِ وَغَيْرِهِ يَعْنِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ.
وَقَالَ السُّمْهُودِيُّ فِي وَفَاءِ الْوَفَا مَا نَصُّهُ (لَمَّا قَدِمَ بِلالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الشَّامِ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْقَبْرَ فَجَعَلَ يَبْكِي عِنْدَهُ وَيُمَرِّغُ وَجْهَهُ عَلَيْهِ) وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ كَمَا سَبَقَ.
وَفِي تُحْفَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا رُمِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَوَقَفَتْ عَلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ وَوَضَعَتْ عَلَى عَيْنِهَا وَبَكَتْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ *** أَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّهَا *** صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا
ثُمَّ أَحَدُ الْحَنَابِلَةِ يُقَالُ لَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بنُ سَعِيدٍ كَانَتْ خَرَجَتْ لَهُ دُمَّلَةٌ تَدَاوَى مِنْهَا فَأَعْيَاهُ عِلاجُهَا مَا كَانَ يَتَعَافَى، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ مَسَحَهَا فَتَعَافَى.
فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعَهُ شَاذُّونَ عَنِ الأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا، وَتَسْمِيَةُ الْوَهَّابِيَّةِ أَنْفُسَهُمْ سَلَفِيَّةً كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَلا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِهِ لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ، إِنَّمَا يُسَمَّوْنَ وَهَّابِيَّةً وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُمْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ أَوَّلِ مَا ظَهَرُوا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهَذَا الَّذِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَلا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَلا مِنَ النَّحْوِيِّينَ لِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهُ مَنْ أَلَّفَ فِي طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ، إِنَّمَا مَدَحَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَلا عِبْرَةَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عُلَمَاءُ عَصْرِهِ وَمِنْهُمْ أَخُوهُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَعَالِمُ الْيَمَنِ مُحَمَّدُ بنُ الأَمِيرِ الصَّنْعَانِيُّ فَقَدْ ذَمَّاهُ وَغَيْرُهُمَا، وَأَخُوهُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ أَلَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَأَمَّا مُحَمَّدُ بنُ الأَمِيرِ الصَّنْعَانِيُّ كَانَ بَلَغَهُ فِي بَدْءِ الأَمْرِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُ رَجُلٌ يُؤَيِّدُ السُّنَّةَ وَيَقْمَعُ الْبِدْعَةَ فَمَدَحَهُ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا هَذَا الْبَيْتُ:
سَلامٌ عَلَى نَجْدٍ وَمَنْ حَلَّ فِي نَجْدِ *** وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمِي عَلَى الْبُعْدِ لا يُجْدِي
ثُمَّ جَاءَهُ الْخَبَرُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ عَكْسُ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ فَنَقَضَ تِلْكَ الْقَصِيدَةَ بِقَصِيدَةٍ أُخْرَى أَوَّلُهَا:
رَجَعْتُ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْتُ فِي النَّجْدِي *** فَقَدْ صَحَّ لِي عَنْهُ خِلافُ الَّذِي عِنْدِي
وَالْوَهَّابِيَّةُ الْيَوْمَ يَذْكُرُونَ الْمَدْحَ الَّذِي مَدَحَهُ الأَمِيرُ الصَّنْعَانِيُّ وَلا يَذْكُرُونَ النَّقْضَ الَّذِي نَقَضَ بِهِ مَدْحَهُ الأَوَّلَ مِنْ شِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِزَعِيمِهِمْ.