نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام(1)
17 نوفمبر 2016نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام(3)
17 نوفمبر 2016نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام (2)
اختلاف الناس في أمر عيسى ابن مريم عليهما السلام وبيان أن عيسى هو عبد الله ورسوله
قال تعالى (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) سورة مريم.
أي أن عيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله مخلوق من إمرأة وهي أمه مريم، والله تعالى لا يعجزه شيء ولايؤوده ويتعبه شيء، بل هو يوجد ما أراد وجوده بسرعة أي من غير تأخر عن الوقت الذي أراد وجوده فيه من غير أن يلحقه تعب ولا مشقة، وقال الله تبارك وتعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}سورة مريم، أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم في أمر عيسى عليه السلام فمن قائل من اليهود إنه ابن امرأة زانية واستمروا على كفرهم وعنادهم قال تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}سورة النساء، وقابلهم ءاخرون في الكفر فقالوا: هو الله، وقال ءاخرون هو ابن الله، وقال ءاخرون: الله ثالث ثلاثة.
وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم النّاجون المنصورون، وقد توعد الله تعالى الكافرين بالعذاب يوم القيامة قال الله تبارك تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إلــه إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل) رواه البخاري.
ومعنى (وروح منه) أن المسيح روحٌ صادرة من الله تعالى خلقًا وتكوينًا وليس المعنى أن المسيح جزءٌ من الله تعالى. فالله سبحانه وتعالى ليس أصلا لغيره ولا هو فرعٌ عن غيره وليس روحًا ولا جسدًا{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}سورة الإخلاص، ودليلُ ما ذكرناه قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}سورة الجاثية، أي أن جميع ما في السماوات وما في الأرض من الله تعالى خلقًا وتكوينًا وليس المعنى أنها أجزاءٌ منه تعالى.
وقد قال تعالى بعد ذكر قصة سيدنا عيسى عليه السلام وما كان من أمره في سورة ءال عمران:{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ}سورة ءال عمران، وقال تعالى:{إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}سورة ءال عمران.
دعوته عليه الصلاة والسلام والكتاب الذي أُنزل عليه وأتباعه المؤمنون:
أرسل الله تبارك وتعالى عيسى إلى بني إسرائيل يدعوهم لدين الإسلام وعلّمه التوراة وأنزل عليه كتابًا سماويًا وهو الإنجيل الذي فيه دعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد خالق كل شئ وإلى الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله، وفيه بيان أحكام شريعته، وفيه البشارة بنبيّ ءاخر الزمان وهو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أيضًا تحريم الربا وكل ضار للعقل أو البدن وأكل لحم الخنزير، وفيه الأمر بالصلاة والصيام وغير ذلك من أمور الدين، وكان أصل دعوته شيئين إفرادُ الله بالعبادة والإيمان به أنه نبيّه، ولم يسم نفسه ابنًا لله ولا سمى الله أبًا له وإنما المذاهب الثلاثة التي هي أصول اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام هي من تأليف بولس، وكانت أوّل كلمة أنطقه الله تعالى بها وهو في المهد:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}ءاية 30، حيث اعترف بالعبوديّة لله تعالى وحده ربّ كلّ شئ وخالق كلّ شئ.
ولقد حذّر عيسى المسيح عليه السلام قومَه بني إسرائيل من الكفر والإشراك وبيّن لهم أنه من يشرك بالله تعالى فقد حرّم الله تعالى عليه الجنّة ومأواه نار جهنّم خالدًا فيها أبدًا (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) سورة المائدة، أي ليسَ للكافرين أنصار يحمونهم من عذاب الله في الآخرة.
كان أتباعُ عيسى المسيح عليه السلام الذين صدّقوه واتبعوه وءامنوا به مسلمين مؤمنين، وكان من أتباعه وتلامذته وصفوته وخاصته -الحواريون- الذين كان أعوانًا له ينشرون دعوته وشرعه ويعلّمون الناس الخير وتعاليم الشرع الحنيف الذي أوحى به إلى عيسى عليه الصلاة والسلام،يقول الله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}سورة المائدة إنما طلبوا شهادة عيسى ابن مريم عليه السلام بإسلامهم تأكيدًا على إيمانهم، لآن الرسل والأنبياء يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وفي هذا دليل أيضًا على أن الإسلام والإيمان متلازمان.
يقول الله تبارك وتعالى في بيان حال عيسى وأمه عليهما السلام: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}من سورة المائدة، يقول الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}سورة الصف.
وقال الله عز وجل في بيان الكتاب الذي أنزله على نبيه عيسى ابن مريم عليهما السلام{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}سورة المائدة.
وقال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}سورة الصفّ.
أولئك أمّة عيسى عليه السلام الصادقون الذين كانوا على هدي نبيّهم عيسى عليه السلام وعلى طريقته وتعاليمه حتى بعد رفعه إلى السماء إلى مائتي سنة، ثم بعد ذلك صار عدد من المؤمنين منهم ينقصُ شيئًا فشيئًا وصار يكثر الذي يعبدون عيسى عليه السلام ويحرّفون ما جاء به من تعاليم سماوية.
فائدة:
يروى أن التوراة أنزلت على موسى لست ليال خلون من شهر رمضان، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وذلك بعد التوراة بأربعمائة واثنتين وثمانين سنة، وأنزل الأنجيل على عيسى لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عامًا، وأنزل الفرقان على محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأربع وعشرين من شهر رمضان.
تنبيه:
الرهبانيّة التي ابتدعها أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام ومدحهم الله عليها{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ}سورة الحديد.
فالله تبارك وتعالى مدح في هذه الآية الذين كانوا من أمّة عيسى المسلمين المؤمنين المتّبعين لنبيّهم عيسى عليه السلام بالإيمان والتوحيد وكانوا صادقين لأنهم كانوا أهل رأفة ورحمة ولأنهم ابتدعوا بدعة حسنة وهي -الرهبانيّة-، وهذه الرهبانية هي الإنقطاع عن الشهوات حتى أنهم انقطعوا عن الزواج رغبة في تجرّدهم لعبادة خالقهم،فقوله تعالى:{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ}أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرّب إلى الله تعالى، فالله تعالى مدح هؤلاء الصادقين من أتباع عيسى عليه السلام على ما ابتدعوا مما لم يُنصَّ لهم عليه في الإنجيل الذي أنزل على نبيّهم عيسى عليه السلام ولا قال لهم المسيح عليه السلام افعلوا هذه الرهبانيّة وإنما هم أرادوا المبالغة في طاعة الله تعالى والتجرّد لعبادته بتركِ الانشغال بالزواج ونفقة الزوجة والأهل ، لذلك كانوا يبنون الصوامعَ وهي البيوت الخفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضع المنعزلة عن البلد ليتجرّدوا لعبادة خالقهم سبحانهُ وتعالى.
فائدة:
بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء بمائتي سنة حُرّف دينه القويم وحُرّفت معاني الإنجيل الذي أنزِل عليه، ثم عمد هؤلاء المحرّفون إلى تحريف ألفاظه فحذفوا منه أغلب الألفاظ، وصار أحدهم يكتب إنجيلًا ويقول: هذا هو الإنجيل الأصلي، حتى كثر عددها وبلغ إلى نحو سبعين كتابًا كلها باسم الإنجيل المنزل فجمعهم الملك -قسطنطين- الذي كان في الأصل وثنيًا ثم دخل في دين المحرّفين وطلب منهم أن يجمعوا أمرهم، فاتفقوا على أربعة كتب كلها فيها تحريفٌ للإنجيل الأصليّ الذي أنزل على نبيّ الله عيسى عليه السلام، ثم أحرقوا بقيّة الكتب وانقسموا نحو سبعين فرقة، قال الله تعالى{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}سورة المائدة.
ثمّ بعد ذلك صار المسلمون من أتباع عيسى يفرّون بدينهم إلى الجبال يعبدون الله تعالى وحده، ومع مرور الأيام قلّوا حتى لم يبق منهم أحد بعد ذلك لا في الجبال ولا في المدن وهذا قبل بعثة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وقد مدح الله تعالى في القرءان الأوّلين من ترهّبوا مع التوحيد والإيمان على شريعة عيسى وذمّ الآخرين الذين قلّدوهم على غير ما كانوا عليه في الحقيقة فقال تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
يتبع…..في الجزء الثالث